بقلم/ محمد أوزين-اروى بريس
من السهل جدا أن تتوسط عدسات الكاميرات العابرة وتشرع في بسط شعارات ببلاغة وزخرف شكلي بهدف دغدغة العواطف وإثارة الأحاسيس وحشد التأييد، وأنت قابع في بيتك الدافىء، تحتسي كوب شاي ساخن، تَزْبَدُ وتَرْغَدُ وتَتَأَفَفُ، تُوعِضُ وتُرشِدُ، تُنَظِرُ وتُخَمِنُ وتَتَكَهَنُ وتَسْتَدِلُ وتُدِينُ وتَسْتَنْكِرُ. “إن أبشع ما يقع في حياتنا” وهذا قول للأديبة السورية غادة السمان “يتم غالبا تحت أجمل الشعارات وأنبلها”، والتي غالبا مايكون مآلها السقوط بحكم عالم متغير لا تصمد فيه إلا الثوابت بحكم الإجماع والمنطق والتاريخ. وكما قال الشاعر العراقي عدنان الصائغ: “لم يجوعني الله ولا الحقول، بل جوعتني الشعارات”.
فبين “الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين” وهذا قول لنجيب محفوظ. فهل كتب لنا هذا القدر؟ حتى أصبحنا نردد ونجتر شعارات أصبحت في عداد المصطلحات الجامدة أو المسكوكة بتعبير اللسانيين. ولم نولي أنفسنا عناء الوقوف على تقييمها يوما حتى نعاين نجاعتها أو محدوديتها قياسا بواقع الحال واستنادا إلى خلاصات الواقع؟ ثم هل يقتصر الأمر على إثارة النعرة القومية والمشترك الديني في حل الأزمات وتجسيد التضامن وتراص الصفوف باسم هذا المشترك؟ اسمحوا لي هنا بالإختلاف! فالصيد لمن صاده لا لمن أثاره. وبقليل من الواقعية نستشف أن الولاء القومي، ولو كان أنبل شعور الإنتماء، فإنه لم ينفع طوال التاريخ لرأب الصدع بين الإخوة وأبناء العمومة وأبناء الوطن والجيران. فكل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر إخوة. والحياة، كما تذكر بذلك الحكمة، حرب! حرب مع نفسك وحرب مع ظروفك وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف.
يجمع العديد من الملاحظين أن أسرع طريقة لكسب شعبية فورية في الشارع العربي هي تخوين وتجريم “التطبيع”. وهو أمر له ما يبرره بحكم الأزمات والمطبات التاريخية التي عرفها الصراع العربي الإسرائيلي. حيث بلغ عدد الشهداء المدافعين عن الحق الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها منذ عام 1948، 100ألف شهيد حسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. فيما بلغ عدد خسائر الأرواح في صفوف الجنود الإسرائيليين، حسب إحصاء لوزارة الجيش الإسرائيلية لسنة 2014، أكثر من 23169 جندي.
لكن قبل الحديث عن العلاقات مع إسرائيل دعونا نستعرض العلاقات العربية وبين “الأشقاء” العرب. و هل كانت دائما طبيعية علاقة بمفهوم “التطبيع”؟ وهل شفعت العقيدة واللسان والتاريخ والقومية ومفهوم الأمة في توحيد الكلمة والصف والهدف؟ وهل الأمر يتعلق بقوة إسرائيل أم شتات الصف العربي ونهش بعضهم البعض هو منبع الضعف؟ وكيف لهذا الصف أن يتقوى ودول جارة، ينادي المؤذنون للصلاة فيها في وقت واحد ليتم التوجه صوب نفس القبلة، لا تفوت فرصة للتربص بوحدة تراب جارتها، وتنفق الملايير على حساب رفاه مواطنيها فقط لإذكاء العداء بين شعبين شقيقين.
بل يشهد التاريخ أن جارتنا وهي تستضيف فعاليات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1987 بالجزائر العاصمة أصرت على أن تحول اللقاء إلى بوق لمجموعة من المغرر بهم من أبناء المملكة الجارة ليشبه فيها “الشعب الصحراوي” الوهمي بالشعب الفلسطيني الباسل، بل شبه شهداء الوحدة المغاربة الأحرار بالصهاينة وأمام مرئى ومسمع “الأشقاء”، وفي حضرة الراحل ياسر عرفات رحمة الله عليه. وتشاء الصدف أن يلقي الراحل محمود درويش، رحمه الله، رائعته “مديح الظل العالي” أمام الحضور وهو يقول: “سقط القناع- لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع. وتمت رشوة القاضي فأعطى وجهه للقاتل الباكي. سرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني وتدخل جثتي..”
ويشهد التاريخ أنه وقبل ثلاثة عشر سنة أي عام 1974، إحتضنت المملكة المغربية القمة العربية في الرباط. وبمجهود جبار وذكاء خارق انتزع الراحل الحسن الثاني، طيب الله ثراه، من دول العالم غربا وشرقا إعترافا رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وهو أهم إنجاز تحقق للشعب الفلسطيني الشقيق طيلة مسيرته النضالية.
نجرم “التطبيع” ونبيح جرم “القطيعة” وهي حتى في حكم تفسير الأحلام تدل على الضلالة وعلى مايوجب الشتات والتهاجر. وسيد الخلق عليه أسمى صلوات الله وسلامه يوصي:” لا تقاطعوا ولا تدابروا”.
مرة أخرى وبعيدا عن الشعارات، وبقليل من البراغماتية يكفي النظر إلى الأرقام لنلاحظ أن عدد الفلسطينيين المتواجدين بإسرائيل بلغ عددهم حسب إحصاء 2013 ما يفوق 1 مليون و400 ألف. أي مايناهز %21 من مجموع سكان إسرائيل. فيما بلغ عدد العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل والمستوطنات من حملة التصاريح أو الهوية الزرقاء، حسب إحصاء 2017، 128.400 عامل ناهيك عن آلاف العمال الذين يعملون دون تصاريح. وفي هذه الأرقام عبرة لأصحاب الشعارات القابعين في دورهم ينددون ويستنكرون.
لقد أصبح واقعا اليوم عزل المسار الفلسطيني عن المسار العربي بفعل فرض إدماج إسرائيل في المنطقة. وهو ما يفسره الملاحظون كنتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب: أولها الضعف والتفكك التي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية وفشلها في تجاوز خلافاتها الداخلية. ثانيها تشرذم الصف العربي عبر نزاعات وصلت إلى دق طبول الحرب بين “الأشقاء”. ثالثها الصراعات الداخلية في البلدان العربية وإنشغالها بأزماتها الداخلية في زمن الوباء والثورة الرقمية. و رابعها فرض الأمر الواقع وقبول إسرائيل كقوة فاعلة في الشرق الأوسط.
أفاد أحد الأدباء أن السياسة حرب باردة والحرب سياسة ساخنة؟ فهل يصدق القول أن “السلام هو غاية الحرب؟”
(يتبع)