أروى بريس
في رحلة معرفة أنفسنا قد يكون الأمان بالنسبة لنا مجرد تحقيق ذلك السلام الداخلي ومحاولة إخماد نار الصراع القائم في هذه النفس، وإن كنا لا نعلم أحيانا أين تنشب هذه الصراعات؟ لكنها موجودة. هذا ليس صراع على سلطة مالية أو جماهيرية أو غير ذلك من الصراعات التي يمكن أن تجسد بعد حين في عمل درامي نستطيع أن نطلع عليه، الأمر أعقد من هذا المنظور، هذه الثورة والصراعات بداخلك لا يمكن أن يطلع عليها أو يشعر بها أحد غيرك فتحتاج إلى أن تعيشها في مكان ما، مكان قد يكون الأقرب إلى قلبك، أو لربما مع أشخاص لعلهم يشاركونك نفس الصراعات! أو قد تحتاج فقط أن تستنشق عطرا من الماضي لعله يعود بك إلى زمن حيث كنت مهزوما أو منتصرا!
قبل ثلاث سنوات كان عمري لا يتجاوز 22 سنة، كان جهاد الطلبة قد بدأ يشتد في البحث عن وظيفة مع نهاية الموسم الدراسي بالموازاة مع الاستعداد لتقديم أطروحة الماجستير، لم أكن أشعر حينها بالحماس الكافي لإعادة تحديث سيرتي الذاتية، ولا الرغبة في حمل جهاز الكمبيوتر والبدء في البحث عن فرصة عمل مجهولة!
كنت أرى في أعين بعضهم نظرة الشفقة، في حين كنت أعلم جيدا ماذا أريد، كنت أؤمن أنني لن أستطيع أن أقضي يوما بدوام كامل، في كرسي جامد داخل مكتب مظلم! كنت أعلم أنه سينتهي دوام العمل وأسأل نفسي ما هي مخرجات هذا اليوم؟ بل قد يمر شهر أو عام وأسأل نفسي سؤالا آخرا، هل حقا صنعت بصمتي التي سترافقني أينما كنت؟ لقد كان شعور الإحباط ذاك يصلني قبل حدوثه…
ثم أيقنت بعدها أن التغيير يكون من الميادين وليس من المكاتب، و أن طبيعتي الانطوائية بعض الشيء و شغفي بالبيئة يتوافقان مع عمل حر، عمل حر لكن بأبعاد منظمة، لقد كنت أرغب فقط في إسكات الجميع والمضي قدما نحو ما أريد!
التحقت بمؤسسة الأطلس الكبير في أواخر سنة 2019 كمتطوعة من أجل العمل على أطروحة الماجستير من خلال مشاريع تنموية تحتضنها المؤسسة، كان كل شيء يتوافق مع اهتماماتي، بل ويقطع حبال مخاوفي، مخاوف عديدة لم يمحوها سوى دافع من الرغبة الجامحة للعمل مع الناس ولأجل الناس ومعرفتي الحقة بنفسي!
ربما كان أفضل ما حدث بعد ذلك أن ألتحق بالمشروع الأمريكي من فلاح إلى فلاح الممول من طرف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وكذا برنامج التمكين الذاتي للمرأة، التحقت إلى حيث أعمل -في الميدان- مع الناس ولأجل الناس، من خلال مواكبة التعاونيات الفلاحية بجهات المملكة المغربية: مراكش-آسفي، وبني ملال-خنيفرة و جهة الشرق.
لقد حققنا نجاحا واسعا خلال تلك المرحلة إلى أن نجمت عنها نقطة تحول جديدة مفادها توسيع بؤرة استفادة التعاونيات المغربية من المشروع، ليقع الاختيار على مدينة الخزامى ” الحسيمة ⵍⵃⵓⵙⵉⵎⴰ “.
هي جوهرة المتوسط و القلب النابض للريف، تقع في منتصف الشريط الساحلي المغربي المتوسطي أقصى شمال المغرب. مدينة هادئة تعد من أجمل خلجان العالم، تقف واثقة على أرض زلزالية بجمال بري متمرد خالص، يحاوطها البحر الأبيض المتوسط وتحرسها جبال الريف. إنها بمعنى ما كما قيل عنها كيان يبدو من الأعلى وكأن سطلا من الجير قد انساح(1) . النقط السوداء للأبواب والنوافذ تبدو وكأنها تنقر بياض المنازل والرؤية البانورامية، ومن أي مرتفع، تعطي للمدينة لونا متميزا. واجهات منازلها يلفحها تأثير البحر والرياح الشرقية، أما شواطئها فهي قصص جمال لا تنتهي.
الآن تذكرت كم كانت كثيرا ما تروقني محاضرات الفيتو جغرافيا و الكليماتولوجيا خلال دراستي ولاسيما حينما كنا نقف وقفة علمية لتدارس حالة بيئية عن الريف المغربي. إلا أن ثغرة عميقة دائما ما كانت تظهر أمامي، تكاد تعجزني عن الربط بين ذاك المجال البيئي وتاريخه الإنساني، فتنقطع لدي السيالات الموصلة للحقيقة الكاملة.
التقيت بعدها المرأة التي أقنعتني أنني وجدت ضالتي من حيث أردت أن أتواجد، وأنني حقا بين يدي مدينة بثقل كبير، بالرغم من أنها لم تؤكد ذلك طيلة حديثها، إلا أن حديثها نفسه كان أداة التأكيد وليس أي شيء آخر.
أخبرتني السيدة “رحيمو” أنها تشعر أن هذه المدينة ذات روح حساسة وأنها تسأل منذ زمن عن نوعية الناس الذين عاشوا فيها حياتهم، تسأل بحيرة وهي أدرى بحالها وتعرف كل مناظرها وروائحها وأصواتها وتركيبتها وأسرارها، وحسبما اكتشفت كما تقول أن روح الحسيمة لعلها اتخذت رائحة عطر فخم تصبو إليه نفوس أهلها الريفيون كلما اشتدت عليهم الخطوب.
للحق والإنصاف إن هذه المدينة هي مدينة الروعة والسحر وقد اختبرتهما كثيرا في حياتي ولا سيما يوم قررت أن أزورها كسائحة.لا أنفي ولا نية لي بذلك، الحسيمة كما يعرفها الجميع هي جبال وشواطئ ومبانٍ و نواد ومكاتب ومطاعم…، ولكن ما يخلق عظمة أي مدينة هم أناسها؛ فهم نبضها وبناة حضارتها وليس عمرانها ما يجعلها عظيمة أبدا. فروح هذه المدينة المنسوجة من خيوط أرواح آلاف الناس الذين عاشوا وسيعيشون فيها، هي التي تجعل منها عظيمة! منطقة سكنتها عينات بشرية عديدة، كان سكانها الأولين هم الأمازيغ واليهود ثم وردت عليهم وفود مختلفة من العرب والمستعمرين(2).
وفي 25 من شهر أكتوبر المنصرم، انطلقت ورشة التمكين الذاتي للمرأة في إطار برنامج من فلاح إلى فلاح الذي تشرف عليه مؤسسة الأطلس الكبير، بتنسيق مع رئيسة التعاونية الفلاحية ”أجديد أوشريك” بأجدير السيدة -رحيمو- وبحضور 25 مشاركة. امتدت الورشة لأربعة أيام متتالية تضاربت خلالها مشاعري ابتداء لرهبة التعامل مع نساء الريف المغربي اللواتي عرفن وأهاليهم بالقوة والجدية، وبالمجد والنصر عبر التاريخ! إذ ارتبط اسم الحسيمة ومناطق الريف عموما باعتزازهم الكبير بمقاومة الاستعمار منذ 1909 إلى 1912 مع القائد المجاهد الشريف محمد أمزيان، ومع المقاوم عبد الكريم الخطابي أسد الريف وبطل أنوال بين 1920 و1926، وانبعاث جيش التحرير مجددا في جبال الريف سنة 1955 لدحر الاستعمار(3).
ذاك التاريخ الذي لم يكتب إلا حديثا، ولم تستعمل في كتاباته الموضوعية الحقيقة المجردة من الإيديولوجيات المختلفة والأهداف الذاتية، إلا أن عمقه يمتد إلى أزيد من 8000 سنة خلت، عرفت خلالها منطقة الحسيمة تعاقب مجموعة من الحقب المهمة بدءا بالفترتين الفينيقية والرومانية، مرورا بمرحلة الفتح الإسلامي، ثم الاحتكاك مع القوى الاستعمارية الأوروبية ثم حرب الريف و مرحلة الاستقلال (2).
تاريخ نجد بين طياته أن ذكريات الحسيمة تتناول أحداث وحقائق عديدة، من الإنزال والمقاومة والاستيلاء الاسباني وتشييد المدينة وأسباب تشييدها في المكان الحالي، ثم نمو البلدة وازدهارها آنذاك والمشاكل التي أثرت فيها، وكذلك العلاقات التي كانت قائمة بين السكان الإسبان والأهالي المغربية.
فعندما تعود بنا الذاكرة الواهنة إلى الماضي للحديث عن نشأة المدينة -بعد عملية الإنزال سنة 1925- وفي خضم تلك الحملة وقبل نهايتها، كان قد بدأ وصول الإسبان القادمين من مدينة مليلية عبر جبال تمسمان ومجرى النكور إلى الموقع العسكري الذي سيتحول إلى بييا سانخورخو، الحسيمة حاليا. منازل مبنية بالحجر غير المصقول، أكواخ من صفيح وخيام، تجمعت كلها بجانب الثكنات العسكرية بين كثبان تتراقص دونا على إيقاع الرياح والرمال، و تم الاستيلاء على بييا سانخورخو في 23 من شتنبر 1925.
كانت البلدة تتوسع، إذ نشط العمل الدؤوب كخاصية لهذه المدينة الشابة التي تنشأ بحافز الرغبة في الوجود، وصممت المدينة وسميت بييا سانخورخو Villa Sanjurjo على اسم الجنرال الذي قاد عملية الإنزال ونجح في إنزال قواته البحرية على شاطئ الموقع.
وهكذا بدأ تدفق الحياة التي ستصبح عما قريب مفخرة الاستعمار الإسباني بأفريقيا، وقبل نهاية سنة عن الاحتلال كان قد فاق عدد السكان ألفي نسمة، كما أدى النشاط البحري والتجاري المزدهر إلى تطور ونشأة المدينة.
تم الإعلان عن استقلال المغرب سنة 1956، وأن بييا سانخورخو سيطلق عليها اسم جديد وهو الحسيمة.
الحسيمة التي غيرت اسمها مرارا عبر التاريخ واحتفظت بنفس الذاكرة، ذاكرة بآلام تزاحم رائحتها عطر الخزامى وعبق الهواء الممزوج بملح المتوسط وشيء من غابات الصنوبر.
لقد حملت قبل أسماء كثيرة من «كالا كيمادو» سنة 1925 إلى «جبل مالموسي Monte Malmusi» إلى «بيا سان خورخو Villa Sanjurjo» إبان الاستعمار الإسباني للمدينة. ثم إلى اسم «بيا ألوثيماس Villa Alhuc as» في العهد الجمهوري وهو الاسم الذي استمر حتى حصول المغرب على استقلاله، وأصله مستنبط من من الكلمة الإسبانية، والعربية الأصل، «Alhuc a» (بمعنى الخزامى) لكون المنطقة كانت تشتهر بهذه النبتة العطرية العبَقة الفوّاحة والمنتشرة في مناطقها الجبلية بلون أرجواني بهيج، ونسيم أقحواني أريج .
ومن هناك أتت التسمية الحالية «الحسيمة» إذ كانت عصارة نباتاتُها الخزاميّة تُودَعُ في قوارير صغيرة، وأحقاق دقيقة أنيقة، وتسوَّق في مختلف أرجاء العالم تحت اسم Lavanda.
إنها فترات شديدة مرت على هذه البلدة، ظلت تتأرجح فيها بين العداء والأخوة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، لتعلو انتهاء -بعزم من المغاربة- كلمة أمازيغية ريفية تظل خالدة “ثمورث إينو” (بلدتي) !
وخلال هذا التكوين، اتضح جليا لي أن الحسيمة بالنسبة لنساء الريف أيضا، ليست مجرد مدينة ولدن ويعشن فيها، بل هي أكثر من ذلك، هي مصدر إلهام و ذاكرة شخصية وجماعية على حد سواء كما وصفنها. لقد فاق حقا تفاعلهن أفق انتظاري !
لم تكن ورشة التمكين الذاتي للمرأة في مدينة الخزامى قصة واحدة، بقدر ما كانت تجسيدا لآلاف القصص، ولهذا حين أحاول أن أروي إحدى تلك القصص أجد نفسي أعبر زقاقا ضيقا بينما يجدر بي سلوك جادة، أجد كلماتي مفككة لا تكاد تصف تلك الحقيقة الكاملة التي سمعتها برواية مسرودة شفاهة وبعربية ممزوجة بنغمات أمازيغية ريفية.
أيا يكن الأمر، كانت أحاسيس النساء تصلني بعمق، وعندما تتكلم إحداهن تجعلني أدرك أنه ليس من السهل فهم شخصية المرأة الريفية باعتبارها حصيلة علاقاتها الشخصية مع الريف ذاته. وبخلاف المعنى الشائع لمصطلح «الريف» كما في الشرق العربي والذي يعني البوادي أو القرى أو المداشر، فالريف المغربي هو منطقة مثقلة بالتاريخ وليس ذاك المكان المختلف عن الحواضر والمدن، وقد بدأ استعمال مصطلح «الريف» للمنطقة الشاطئية المتوسطية للمغرب، منذ القرن الرابع عشر الميلادي(3) .
لقد غيرت حقا تلك النساء نظرتي للريف المغربي خلال هذا التكوين، وأظهروا لي أن العالم أكثر غموضا مما أتخيل، إذا كان مصدر معلوماتي عنه الصحف والتلفاز، أو في هذا العصر الإنترنيت، لأكتشف بالأساس أن الحقيقة الكاملة دائما ما تكمن عند أصحابها، أصحابها هنا الذين عاشوا وأجدادهم أمورا فظيعة وأخرى رائعة ومذهلة حصلت ولا تزال تلاحقهم. في مقدمتها قدرهم وجود الريف في صدارة منهجية التحرير، ثم تموقع المنطقة جيولوجيا فوق أرض تعرف نشاطا زلزاليا متواصلا، آخرها زلزال سنة 2004 الذي تسبب في مأساة إنسانية كبيرة، إذ خلف آلاف القتلى والجرحى.
لطالما اشتغلنا مع النساء عن التمكين الذاتي لمساعدتهن على تحقيق أهدافهن في المستقبل، إلا أن هذه التجربة بالريف كانت صيغتها مغايرة، إذ عادت بنا لتاريخ عظيم ترتبط به النساء ارتباطا وثيقا لتحقيق ذاك التمكين المراد بلوغه. لقد كنا كلما تطرقنا لمحور من محاور ورشة التمكين الذاتي للمرأة تلك، ترى النساء يقمن بإسقاط على المنوال الذي كانت تسلكه المرأة الريفية من حيث مهاراتها الحياتية.
إنها حقا عودة إلى الماضي الشاق من أجل حاضر مشرق، ظهرت من خلاله هذه النسوة كرئيسات لتعاونيات فلاحية بأنشطة متنوعة تحضر فيها وبقوة نبتة الخزامى كتتويج فعلي لما شهدته المنطقة، وتساهم في خلق الرواج الاقتصادي للحسيمة المرتبطة إلى حد ما بالسياحة الموسمية في فصل الصيف والصيد البحري كموردين اقتصاديين أساسيين بعدما هاجر العديد من السكان في الفترة ما بين الستينات والثمانينات إلى أوروبا نظرا لضعف المداخيل.
وعلى الرغم من أن التعلم والعمل لا ينتهيان أبدًا، فإن اليوم الأخير من الورشة مثل بالنسبة لي نهاية تلك الأيام التي أمضيناها لإنجاح ورشة التمكين الذاتي للمرأة بالحسيمة، وبداية التقرب من مدينة ترتدي إرثا تاريخيا وثقافيا مغربيا غامضا يستدعي الإبانة عنه للجيل الحالي، إرثا بأحداث ذكرنا شيئا منها، ومعالم فريدة تشهد على تلك الحمولة التاريخية الكبيرة وتزيد المدينة رونقا، وبهاء كقلعة طوريس المتواجدة بالمنتزه الوطني بالحسيمة، كموقع أثري يرجع إلى القرن الثالث عشر، يستقبل في هذه الأيام أيضا مشروع ترميمه بدعم من الحكومة الأمريكية.
بل وتزامنت هذه الأيام كذلك مع الاستعداد للاحتفال باليوم العالمي للمدن لأجد نفسي أتساءل: لماذا علاقتنا بالأماكن والمدن خاصة غريبة إلى هذا الحد؟ شعور الانتماء ذاك لمدينة، هو أيسر وأبلغ من كل التعقيدات والتفسيرات إذا ما كان مُبْرِئ لجروح قد نزفت!
إنها سمة عامة يحيا عليها الجميع، كما تحيا على وقعها ساكنة الحسيمة، وهم يرقبون عما إذا كانت الأيام المقبلة ستخفي رائحة الأحزان وتحمل رياح بحر الحسيمة لتلوح بعطر الخزامى !
زينب لعظم
متطوعة سابقة، ومسؤولة ميدانية بمشروع من فلاح الى فلاح،
ومدربة ببرنامج التمكين الذاتي للمرأة بمؤسسة الأطلس الكبير.