بقلم : فهد البراق
في بداية الثمانينات و في أوج المواجهات العسكرية التي كانت تخوضها وحدات من أسود القوات المسلحة الملكية المغربية ضد جرذان ميليشيا البوليساريو الإرهابية المدعومة من طرف الجزائر و النظام الليبي عقد الراحل الحسن الثاني مؤتمر فاس الثاني للقمة العربية بحضور مختلف الدول العربية لمناقشة الوضع في الشرق الأوسط و لبحث آليات على مستوى القيادة من أجل توحيد الصف العربي بعد إتفاقيات كامب ديفيد و إنقسام الصف العربي و الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ، عقد المغرب مؤتمر القمة العربية في سبتمبر 1982 رغم أنه كانت له صراعات حقيقيى مع نظامين كان أحدهما في ذلك الوقت من أكبر داعمي ميليشيا البوليساريو سياسيا و ماديا و عسكريا في مساعيها كتنظيم إرهابي وظيفي يهدف إلى تقسيم المملكة المغربية و تهديد الأمن القومي المغربي .
ديبلوماسية المغفور له جلالة الملك الحسن كانت تعتمد على مبدأ النفس الطويل و الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى حيث نجحت العبقرية الحسنية في تحييد النظام الليبي بتوقيع إتفاقية الإتحاد العربي الإفريقي بين المغرب و ليبيا أو ما سمي بمعاهدة الوحدة المغربية الليبية بوجدة سنة 1983 لتفقد ميليشيات البوليساريو بعد توقيع هذا الإتفاق أحد أكبر داعميها عسكريا و ماديا .
أما النظام الجزائري حسب آراء متباينة تؤرخ لتلك المرحلة تشكل جناح داخله يؤمن بأن طريق تحقيق التنمية الشاملة في الجزائر هو القطع مع السياسات البومدينية التوسعية التي أرهقت الدولة قامت بتبديد ثرواتها في صراع مجنون مع المغرب و إطلاق المسلسل الديمقراطي و القيام بإصلاحات إقتصادية و العمل على وضع حد لمسرحية دعم الجمهورية الوهمية مع إقتناع الشاذلي بن جديد بأن هذا الملف يستنزف موارد الدولة الجزائرية خاصة بعد إبعاد رجال نظام بومدين من مربع الحكم في الجزائر حيث إنتصر على منافسيه الرئيسيين محمد الصلاح يحياوي الامين العام السابق لحزب جبهة التحرير الجزائرية وعبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية بومدين و أحد أكبر منظري الفكر البومديني بالإضافة لكبار حراس المعبد البومديني ك طيب العربي، عبد الغني ، أحمد داريا، بن شريف ؛ ليتحكم نظام الشاذلي بن جديد بشكل كلي في السياسة الداخلية و الخارجية للجزائر بالإعتماد على العديد من عدة دوائر متحدة المركز: الأمن العسكري، وأقربائه من عنابة وقسنطينة، وحاشيته العائلية، والمكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني الذي شكله بما بتناسب مع طموحاته .
إلا أن أحداث الربيع الأمازيغي العنيفة في الجزائري 20 أبريل 1980م – 3 مايو 1980 في تيزي وزو حيث تم أغلاق جميع المدارس التي تُدرس بالعربية، وأتلفت لوحات الإشارات والإعلانات المكتوبة بالعربية في ظل إنزالٍ أمني كثيف و عزل المدينة عن العالم. وبلغت حصيلة الاحتجاجات أكثر من 120 قتيلا وخمسة آلاف جريح و التي كانت سببا مباشرا في إنفجار الوضع الإقتصادي و الإجتماعي و الوضع المعيشي المتردي والبطالة المستشرية والاقتصاد المنهار والإقصاء والحرمان والبيروقراطية عجلت بأحداث 5 أكتوبر 1988 الدامية في مختلف المدن الجزائرية التي عرفت مظاهرات شعبية تندد بتبديد أموال الشعب الجزائري في دعم حركة إنفصالية و تطالب بالحرية و العدالة الإجتماعية و خلف حصيلة كارثية من القتلى، وقتل في هذه الأحداث حسب إحصائيات رسمية 169 شخصاً، بينما يرتفع العدد لدى المعارضة إلى ما لا يقل عن 5000 قتيل وآلاف المفقودين قسراً .
موقف الشاذلي بن جديد المتقارب مع المغرب سيتوضح أكثر مع توقيع إتفاقية زرالدة و إعلان قيام اتحاد المغرب العربي في 17/2/1989 بمدينة بمعاهدة مراكش توجت بفتح الحدود المغربية الجزائرية و قيام أتحاد المغرب العربي بخمس دول في غياب الكيان الجزائري المصطنع و الورم الخبيث الذي يعرقل قيام وحدة مغاربية و لولا إنقلاب النظام العسكرتاري على الرئيس الشاذلي بن جديد بإرغامه على التنحي في 11 يناير 1992 أعقاب قرار المؤسسة العسكرية تجميد المسار الانتخابي وإلغاء نتائج الدور الأول من التشريعيات التي جرت في 26 ديسمبر 1991.
الإنقلاب العسكري الذي كل من الثلاثي الدموي خالد نزار و توفيق مدين و كمال العماري كان البداية الحقيقية لمأساة إنسانية كبرى تتمثل في العشرية الدموية السوداء الذي تورط فيها الجيش الجزائري و الجماعات المتطرفة و الإرهابية في عمليات قتل و تهجير ممنهج للشعب الجزائري طوال عشر سنوات .
و إلى إنفجار صراع للأجنحة داخل الدولة الجزائرية أدى إلى إغتيال الرئيس الشهيد محمد بوضياف من طرف الجيش الجزائري و العديد من الشخصيات في جهاز الدولة البيروقراطي و الإعلام و المجتمع المدني .
الرئيس الشهيد محمد بوضياف صاحب المواقف المعتدلة و الذي كانت له رؤية واقعية للعلاقات التي من المفترض أن تكون للجزائر مع جار شقيق و صديق إسمه المغرب حيث كانت مواقفه تؤكد على وقف الصراع الإقليمي بإستخدام الميليشيا الإنفصالية لخدمة أجندات بومدينية توسعية ؛فميليشيا البوليساريو الإرهابية مرفوضة شعبيا داخل الجزائر و يعتبرها جزء كبير من الشعب الجزائري كثقب في ميزانية الدولة حيث صرفت و تصرف عليها ملايير الدولارات لخدمة أجندات توسعية على حساب جهود التنمية في الجزائر .
عشر سنوات من حكم الرئيس الشاذلي بن جديد لم تكن كافية لتفكيك بنية الدولة البومدينية و ظل رجالها في تربص دائم للتحكم في دواليب الدولة و لإنقضاض على مقدراتها من أجل خدمة أجندات توسعية ترى في المملكة المغربية هي الحجرة التي تتكسر فوقها أحلامهم بالهيمنة على المحيط الإقليمي ؛ مع غرق الجزائر في مآسي العشرية السوداء بين الجيش والتنظيمات الأصولية التي أدى ثمنها الشعب الجزائري بسبب إنقلاب الجنرالات على الإرادة الشعبية التي أفرزها المسلسل الإنتخابي الذي دشنه الشاذلي بن جديد عادت ملامح الدولة البومدينية إلى الحياة السياسية الجزائرية مرة أخرى مع تغول جهاز المخابرات و المؤسسة العسكرية و إستدعاء وجوه محسوبة على نظام بومدين إلى الحكم كوزير خارجيته و الرجل الثاني في نظام بومدين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أعاد مختلف البروفيلات المحسوبة على نظام بومدين أو المقريبين فكريا من التوجه السياسي البومديني المبني على الهيمنة الإقليمية و الفكر التوسعي .
الدولة البومدينية – البوتفليقية عادت مرة أخرى أكثر قوة و أكثر إصرارا على تبديد و نهب مقدرات الشعب الجزائري حيث غرقت الجزائر بعد عشرية الموت الأسود 1991-2001 في عشرينية الفساد الأسود مع تغول نظام بوتفليقة و رجالاته و سيطرتهم على دواليب الحياة داخل الجزائر بإجراء توافقات ببين أجنحة الحكم من رجال المخابرات و جنرالات جيش و قيادات بيروقراطية إدارية و كوادر أوليغاركية حزبية و برجوازية إنتهازية متعفنة التي إصطلح عليها فيما بعد ” بالعصابة ” .
السياسات اللاشعبية و اللاوطنية و اللاديمقراطية التي إنتهجتها العصابة طوال فترة حكم بوتفليقة و رغم نجاح نظامه النسبي في وقف الحرب الأهلية و إطلاق مسلسل الوئام المدني إلا أن ضعف شخصية بوتفليقة أمام سطوة الجنرالات و إستفراده هو و بطانته بالحكم لمدة أربع ولايات رئاسية أدت إلى إحتقان كبير في الشارع الجزائري إنتهي بحراك شعبي يطالب بإسقاط الدولة العسكرتارية و عصاباتها الحاكمة و وصول رئيس يخدم مصلحة الجيش حيث أصبحت الدولة برأسين : رئيس مدني فاقد لكل الصلاحيات و الشرعية لكنه ضروري لإستكمال الشكل الديمقراطي للدولة و جنرال يمتلك كل السلطات و يضمن إستمرار جمهورية الخوف البومدينية لتتأسس مرة أخرى : الدولة التبونية – الشنقريحية أو نظام النيوباتريمونيالية العسكرية الجديدة بدل الجزائر الجديدة التي كان يطالب بها نشطاء الحراك الشعبي .
تقرأون في الحلقات القادمة :
* العهد البومديني التوسعي و تأسيس جمهورية الخوف
* الشاذلي بن جديد و الصراع بين النظام العسكرتاري و بيروقراطية الحزب
* العشرية السوداء و إنقلاب جنرالات الدم
* الدولة البوتفليقية و الوئام مع نظام الفساد
* الحراك الشعبي و نهاية العصابة
* الدولة الشنقريحية – التبونية و عودة النظام البومديني من جديد