أروى بريس
قبل الخوض في الأحداث الديبلوماسية الأخيرة بين النيجر و فرنسا،و ما قد تخفيه وراءها من نوايا و رهانات،نبدأ بالتذكير بالآلية القانونية الأساسية المنظمة للقانون الديبلوماسي، و هي اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية ل 18 أبريل 1961.هذه الاتفاقية تنص في مادتها التاسعة على ما يلي: ” يمكن للدولة، في أي وقت، و دون الحاجة لتعليل قرارها،أن تبلغ الدولة المعتمدة -بكسر الميم_،أن السفير أو أي عضو في البعثة الدبلوماسية أصبح غير مرغوب فيه.الدولة المعتمدة تستدعي إذن الشخص المطلوب و تضع حدا لمهامه”.
نص قانوني أخر أسمى، والذي ينضبط له روح المادة أعلاه،و هو ميثاق الأمم المتحدة الذي يكرس مبدأ السيادة المتساويةEgalité souveraine، حيث تنص مادتها الثانية من الفصل الأول في شأن مقاصد الهيئة و مبادئها،على أنه:”تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”.هذا المبدأ الأسمى المنظم للعلاقات الدولية، وجد له صدى في المادة أعلاه، حيث أن عدم تنصيص المادة على وجوب تعليل “حالة الشخص الغير مرغوب”non grata، جاء من باب التأكيد على أنه لا مكان للعلاقات العمودية و التراتبية relation verticaleبين الدول، مادامت العلاقات الدبلوماسية مؤطرة بمبادئ الإرادة المتبادلةconsentement de volontés، و المعاملة بالمثلégalité du traitement و الصداقةamitié و الود cordialité بين الدول.
هذا الواقع المتكافئ الذي يصون مبدأ سيادة الدول، نجد له صدى أيضا في شكلية أخرى مرتبطة بذات المادة، و تتعلق بمسطرة تبليغ حالة “الشخص غير مرغوب” و ليس “طلب السحب”المبلغ في الكتاب الصادر عن الخارجية النيجرية بتاريخ 25 غشت 2023 تحت رقم 011537، و هو القرار الذي يحيل ضمنا على الطبيعة الأحاديةunilatéral لهذا الإجراء، و الذي تمارسه السلطة السياسية القائمة التي تمارس السلطة واقعا و حسب مقتضيات النظرية الواقعية للعلاقات الدولية، التي لطالما جعلتها الجمهورية الخامسة منطلقات لسلوكها الدولي للمفارقة.
بإسقاط النص و الحيثيات القانونية أعلاه على حادثة اعلان السفير الفرنسي شخص غير مرغوب من طرف السلطة الانتقالية الجديدة للنيجر، و رفض فرنسا سحب سفيرها، يمكن إثارة بعض الملاحظات التي تجعله حادثا يشي بالكثير من أزمة تطبيق و تمثل القانون الدولي في الأنظمة الأوروبية و الغربية بصفة عامة:
أولا: قد يقول البعض إن كانت ديباجة اتفاقية فيينا تلح على أن التمثيل الديبلوماسي يروم تعزيز الصداقة و العلاقات الودية بين الشعوب و الدول، و بغض النظر عن حادثة السفير، أليست ممارسات فرنسا العدوانية و غير الودية، من تحريض معلن لدول “الإيكواس”على غزو النيجر، و محاولتها الوصاية على حق الشعب النيجيري في اختيار من يحكمه، ممارسات لا تمت لروح العلاقات الديبلوماسية بصلة أصلا،بل و ممارسة صريحة للقطيعة الديبلوماسية ؟
ثانيا: إن كان النص القانوني حاسم في التنصيص على وجوب استدعاء السفير مباشرة من طرف الدولة المعتمدة التي جرى تبليغها، ألا تسقط فرنسا بسلوكها الصفة و الحصانة الديبلوماسية عن موظفها، و بالتالي تعرض حريته و حياته للخطر، كرعية في بلد بدون وضع قانوني نظامي؟.
ثالثا: إن كانت الدينامية و التدافع ميزة مميزة للعلاقات الدولية، كيف لفرنسا أن تبرر لرأيها العام الداخلي إقدامها على سحب السفير بمالي و بوركينافاسو، و الآن تحاول يائسة أن تفرض على بلد عضو في الأمم المتحدة علاقة دبلوماسية بطعم الوعيد و التدخل في شأنها الداخلي و سيكولوجية “الميثاق الكولونيالي” ؟
رابعا : إن كان لابد لفرنسا أن تصنف الدول حسب درجة شرعية و “صدق” ممثليهاintegrité كما قال رئيسها ماكرون عن الرئيس المخلوع بازوم، و اعتبارا لمبدأ عمومية القاعدة القانونية، فما درجة شرعية الميثاق الاستعماري الذي استعمرت بموجبه افريقيا من طرف فرنسا؟ و ما نسبة شرعية النظام المخلوع مع ما يلاحظه المراقبون من مليونيات بالملاعب الرياضية داعمة للسلطة الانتقالية الجديدة؟
خامسا: على صعيد حرب اللغة و السرديات، قد يدفع البعض بالقول أن خطاب فرنسا تجاه هذا البلد مجرد تحامل مجاني على التاريخ و آمال الشعب النيجيري، لأنه يقوم باختزال ثورة في شرارة بداية، عرف الذكاء العسكري لبعض الضباط كيف يقربها من الشعب. و باستقراء مقارن للديناميات السياسية ، يصعب أصلا الجزم بأن العسكر بعيد تماما عن سيرورات الثورة و الانتقال في تجارب أخرى عبر العالم ما بعد الحرب الباردة كي لا نذهب بعيدا.
أنوار مزروب: خريج ماستر الدراسات الدولية و الديبلوماسية بكلية الحقوق السويسي.