Site icon أروى بريس – Aroapress – جريدة إلكترونية مستقلة تصدر من إسبانيا

د. أحمد الفراك..ثقافة اللَّاعُنف في الإسلام (الفصل الثاني)

د. أحمد الفراك

الفصل الثاني: مظاهر ومجالات الرفق في الإسلام
المطلب الأول: مظاهر الرفق في مجال الأسرة
1- الرفق بالنفس
لا يكون فعل المرء رفيقا بالناس وبالكائنات من حوله ما لم يكن الرفق سجية صادقة، وتصرفا نابعا من أعماق النفس، يصدر بتلقائية ومن غير تكلُّف، ويرتد الرفق العميق في سلوك الفرد لذاته كما ينعكس على تصرفه مع غيره، فلا يعذِّب نفسه فيُميتها ولا يُدسِّيها فتتغول وتهلكه، وإنما يأخذها من طاقتها، فيوفر لها حقها ويؤاخذها على تجاوزها فيمنعها حظها.في الحديث أن: “رسول الله ﷺ عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال:نعم. كنت أقول اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال فدعا الله له فشفاه”.
ولئن انتشرت دعوات ومناهج تطهير النفس في التاريخ، وتناقلتها طوائف من الناس وكيَّفتها مع التشريعات الدينية، فلا توجد في الإسلام دعوة إلى تعذيب النفس وتحميلها ما لا طاقة لها به، ففي مجال العبادات مثلا أمر الإسلام بتخفيف الصلاة أو قصرها على المريض والمسافر والخائف، وإسقاطها على الحائض والنفساء، وتأجيل الصوم إلى تحقيق إمكانه على غير المستطيع، وإسقاط فريضتي الزكاة والحج عمن لا استطاعة له، وعلى هذا تُقاس جميع أفعال المسلم، فلا يتكلف ولا يتشدد، ولا يحبس نفسه عن التنعم بالطيبات التي أحل الله لعباده، على خلاف بعض المناهج التربوية التراثية التي مارست التعبُّد عن طريق تعذيب النفس وحبسها.
عن عبد الله بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمَا قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً؟! فقال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا! لِتَحُجَّ رَاكِبَةً، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا”. وكل ما ظهر في تاريخ المسلمين من مظاهر الرهبنة والانزواء وتجويع النفس وتوهين الجسم ومنعه من النعيم المسخر للإنسان، هو من الثقافات الدخيلة التي لا علاقة لها بروح الإسلام وروحانيته وثقافته الأصيلة. بل على عكس ذلك نجد أن فلسفة التربية في الإسلام تتجه إلى تشجيع الإقبال على الطيبات وشكر الله عليها، قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} (النساء:147)، في مقابل النهي عن إتيان الفواحش التي تعكر صفو النفس وتفسد المزاج، ما ظهر منها وما بطن، وتجنب الاقتراب منها في كل حين وعلى أي حال. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33)، وقال أيضا:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120).
وقد نهى الإسلام عن اليأس وحارب ثقافة التيئيس من الحياة، التي تفضي إلى القنوط من رحمة الله، قال تعالى:{وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87)، وبناء عليه حرَّم كل ما يترتب على أفعال النفس اليائسة، من قبيل الانتحار مهما كانت الدوافع إليه،قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَافِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا”.
2- الرفق بالوالدين والأقربين
من أجل الوفاء للإنسانية وما قدمته للفرد من خير ونعيم ومعرفة، أمر الإسلام بالإحسان بالوالدين لأنهم أقرب الناس مودة للشخص وأكثرهم نفعا له وحماية لمصلحته، وقرن ذلك الإحسان بعبادة الله تعالى، وكأنه لا عبادة إلا بإحسان معاملة الوالدين كدليل على إحسان المعاملة لجميع الخلق، سواء من سبق منهم وقد وفروا لأجيالنا خيرا وفضلا كبيرا لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، أو من سيلحق من الأجيال القادمة وهم يشتركون معنا في خيرات الأرض وميراث السابقين.قال تعالى في وصيته لعباده: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء: 23، 24)، وقال أيضا: ﴿واعْبُدُوا اللهَ ولَا تُشْركُوا بِهِ شَيْئاً وبالوالدَينِ إحْسَاناً﴾ (النّساء، 36)
يبدأ سُلم الإحسان للإنسانية بالإحسان للأقربين الذين ينحدر من صلبهم وجود الفرد وبين أحضانهم يترعرع، وعلى رأسهم الوالدان، ثم الإخوة والأقرب فالأقرب، إلى أن تصل القرابة إلى كل إنسان، بل كل مخلوق.جاء رجل إلى النّبي ﷺ فقال: يا رسول الله من أولى النّاس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أبوك”، أولى الناس بالصحبة الأم ثم الأب، ولا تقف الصحبة معهما بل تمتد إلى جميع الناس. إذ السؤال بصيغة “أولى الناس” يفيد مما يفيده أن الصحبة مراتب متتالية ومترابطة يشد بعضها ببعض.
ومن معاني صحبة الوالدين محبتهما ومساعدتهما والدعاء لهما والسعي في خدمتهما، وصلة وُدِّهما الذي لا يوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما وإنفاذ وعدهما، وأن يقضي ما عليهما من ديون.قال الله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (نوح: 28)، وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ! وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ! وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَال”، وعن أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ ﷺ: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟” ثَلَاثًا؛ “الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -أو قَوْلُ الزُّورِ-“، وكان رسول الله ﷺ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فمازال يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ”، فالإساءة للوالدين بالعقوق كادت أن تعدل الشرك بالله والكفر به لعظم خطورتها على العبد في الدنيا والآخرة، فهي نكران لفضلهما وجحود لعطائهما وتقصير في برهما. ومن أنكر إحسان والديه به فهو لغيرهم أنكر لبالغ فضلهم عليه، وبذلك ينقلب عقوق الوالدين عقوقا اجتماعيا ومجتمعيا يتأذى منه جميع الناس.
3- الرفق بالزوج والأبناء
المؤمن بطبعه وبتربيته هَيِّن ليِّن، يألف ويؤلف، يجاهد نفسه كي يتخلص من الطباع العنيفة فيه، حتى لا يكون غليظا ولا عنيفا، يحيا قريبا من الناس منسجما معهم، مندمجا فيهم، خادما نافعا وناصحا رحيما، لا مستكبرا يتعالى على الناس وينظر إليهم بازدراء، ولا منعزلا يأبى مخالطة الناس ويخشى العيش معهم. والمجال الذي يُمتحن فيه المرء هو مجتمعه الصغير؛ أسرته، حيث تطول المعاشرة وتحتاج إلى أخلاق الاعتراف بالفضل والاعتذار عند الخطأ والصفح عن الغلط، والصبر الدائم في المعاشرة والتربية والتعليم والإرشاد، ومعاناة الظروف الطارئة في تدبير قضايا المساكنة المعاشية والنفسية والاجتماعية. والموفق مع زوجه وأبنائه هو من يرفق بهم ولا يشقُّ عليهم. قال النَّبِيَّ ﷺ: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْخُرْقِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلَّا قَدْ حُرِمُوا”. فإذا فقدت الأسرة منهاج الرفق في تدبير سفينة الحياة المشتركة غرقت الأسرة في المشاكل ووقع الاتهام والخصام ثم الطلاق والفراق، وإذا انهارت الأسرة في مجتمع ما انهار المجتمع بأكمله، وتداعت أخلاق الأمم بالعدوى وانحط الوجود الإنساني.
استحضارا لخصوصية المرأة عموما، سواء في عملها داخل بيت الأسرة أو في المجتمع، وتعليما لمنهاج الرفق في التعامل مع هذه الخصوصية نبه النَّبي ﷺالرجل أَنْجَشَة الذي كان يسوق الإبل بالنساءويَحْدُولهابالشعر حتى تسرع على حِدَائه، إلى أن الإسراع قد يضر بالنساء -دون الرجال- نظرا لخصوصيتهن في الحمل أو غيره، إذ قال له:”ويحك يا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَك القوارير”، أي تمهل في السير ولا تسرع بالنساء فتُصبهن بمكروه، وكأنهن قوارير (زجاجات تحملن العِطر) يخشى أن ينكسرن.لذلك تقتضي العدالة الأخلاقية أن تختص المرأة أحيانا بتمييز إيجابي يراعي طبيعتها وخصوصياتها.
الحضارة التي لا تهتم بأطفالها حضارة مهددة في مستقبلها، والمستقبل إنسان قبل أن يكون وطن وثروة، لذلك كان النبي ﷺ يعامل الصِّبية معاملة خاصة وكأنه يُعدهم لحمل المعاني الكبيرة ويهيِّؤهم لتحمل المشاق العسيرة في اقتحام عقبات الواقع المختلفة، فقد كانﷺ أرحم الناس بالصبية سواء كانوا ذكورا أو إناثاً يُقبِّلهم ويمسح على رؤوسهم ويدعو لهم ويداعبهم، وكان إذا دخلت عليه بنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها فرح بها وقال: “مرحباً بابنتي”، على خلاف التربية الجاهلية التي كانت ترى البنت عارا على أبيها فتسرع في وأدها. وتعظيما لشأن الرفق في تربية الأبناء كان النبي ﷺ يراعي وضعهم حتى في الصلاة، فإذا سمع بكاء طفلٍ خفف الصلاة، وإذا لاعبه طفل وهو في صلاته استجاب له، فقد كان يوماً يصلي بالناس وهو يحمل أُمامة بنتَ بنته زينب، فكان إذا ركع وضعها وإذا قام حملها. فأي رفقٍ هذا الذي يأخذ من صلاة العبد وخشوعه حتى يستجيب لرغبة طفل في اللعب؟ فالمصلي نبي والمصلَّى مسجد والقضية رغبة طفل في اللعب، والمنهاج النبوي يستجيب ولا يعيب.
البشاشة والتبشبش في وجه الطفل وتقبيله والتصابي له والإنصاتُ إليه وطلب الدعاء منه أسلوبٌ نبوي أصيل في الإسلام، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهقال: “قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسٌ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: “مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ! فجعل الإسلامُ رحمة الخلق موجبا لرحمة الخالق، فمن كان قاسيا على الخلق كان قصيا من الحق.
ولا تقف التربية على الرفق في الأسرةالبيتية؛ أهل البيت (الزوجة والأبناء)، بل تتوجه إلى فلسفة التربية في أصولها من أجل إعداد الأجيال المقبلة إعدادا شاملا ومتوازنا، كيف لا والنبيُّ هو بمثابة الأب للإنسانية جمعاء، لا فضل عنده لثقافة على ثقافة ولا لون على لون ولا جنس على جنس. جميع الناس إخوة في الخلق والآدمية والمصلحة والكرامة، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول:”اللهم ارحمهما، فإنِّي أرحمهما”.
ومن الرحمة بالصغار نفهم وجوب العناية بقضايا الطفولة والمشكلات المرتبطة بها في العالم اليوم ومستقبلا، فنهيئُ لهم الفضاء الذي يحيون فيه في أمن وطمأنينة ورخاء، ونحبس جشعنا الجماعي كي لا نضر بأبنائنا الذين سيخلفوننا على وجه الأرض.ومن كان دينه رحمة للعالمين {وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعاَلمِين} (الأنبياء:107)لا بد أن يجعل نُصب عينيه مستقبل الطفولة التي تتهدده جوائح الطبيعة الجبارة وحوائج الإنسان السائلة.
بنشر ثقافة الرحمة والحنان بين أطفالنا -في تربيتهم وتعليمهم- يشعالرفق في المعاملة الأسرية ويحصل التأليف بين القلوب، فتسود قيم المودة والعفو والصفح، ويعمُّ ذلك المجتمع كله، إذ ما المجتمع إلا مجموع الأُسر المكونة له. وإذا غاب الرفق غابت القيم المتصلة به، وحصل الانتقام والكراهية والاستبداد والتنافر بين الأفراد كما بين الجماعات.
الرفق مَزية وزَيْنٌ، والعنف مَنقصة وشَيْنٌ. ومن لا يَرحَم لا يُرحَم، وقد كان رسول الله ﷺ على منبره يخطب فجاءالحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل ﷺ من على المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: “رأيتُهذين يمشيان ويعثران في قميصهما فلم أصبر حتى نزلت فحملتهما”. والنزول المعنوي بالتفكير في قضايا الطفولة والتهمم بمشكلاتها، والحمل المعنوي العناية بالإنسان وتحسين تنشئته الاجتماعية وحمايته من السقوط والتردي الأخلاقي.
من الرفق في الإسلام ملاعبة الأطفال ومداعبتهم والتصابي لهم، وإعداد البرامج التي تناسب سِنهم وحاجياتهم بلُغتهم وبحسب طاقاتهموميولاتهم.ومن ذلك اللعب الهادفوالرياضة البدنية المنتظمةللابتعاد عنه الخمول والكسل والعجز. وقد أكد علماء التربية قديما وحديثا أهمية اللعب الهادف في تربية الطفل تربية متوازنة، سواء أكان لعبا فرديا أو جماعيا، شريطة مساعدته وتوجيهه، حتى لا يتعرض للأذى لقلة خبرته أو لضعف قوته أو لاستغفالالآخرين له. يقول ماكس شيلر: “يكون الإنسان إنسانا حين يلعب”، حيث باللعب وخاصة إذا كان لعبا جماعيا منظما وموجها، يتعلم الطفل ثقافة الوسط الذي يعيش فيه بلغته وعاداته وحيله وطقوسه ومقولاته، ويتدرب على مهارات كثيرة ومتنوعة بتنوع الحركات والألعاب والتحديات والمغامرات. فضلا عما يحققه من ترويح على النفس بالفُرجة والدعابة والمزاح. وبالتنشئة وسط ثقافة ما يتشكل مزاجه وتتقوى روابط الصداقة مع بني جنسه ويندمج في روح الجماعة التي تحيط به.
من الرفق أن يحبب الآباء لأبنائهمأمهات الأخلاق والقيم مثل الخير والحق والعدل والجمال، ويغرسون في قلوبهم إرادة الخير للغير، ويربونهم على خصال المحبة والصدق والعمل والنظافة والتعاون، وباقي خصال الخير. أما القسوة في الحكم على هذه الأجيال ومقارنتها بالأجيال السابقة، وما يرافق ذلك من كثرة اللوم والتوبيخ فقد تتحول إلى نظرة شؤم ملازم لنظرتنا تجاه الأجيال التي نخلفها وراءنا لما نغادر إلى الآخرة، وهي ممزقة ومشردة. وليس هذا فقط بل سيتلقى منا الأبناء خطاب التخويف والتخوين الذي سيلازمهم ويؤثر سلبا في تفكيرهم وسلوكهم، ويقطع صلتنا بهم لا قدر الله.
في موضوعنا أيضا أكدت الكثير من الدراسات الحديثة أن الطفل الذي يُضرب كثيرا يفضل الانعزال عن والديه كلما أتيحت له فرصة لذلك، يأكل وحده وينام وحده ويجلس وحده، ويمكن أن تصل بعض الحالات إلى الانطواء أو الانحراف. إن القلب إذا أُكره عمي، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46). وإذا رأيت ما لا يعجبك {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحِجر: 85)، ولا تُكثر العتاب ولا تفْرط في العقاب. ومن ستر مسلما ستره الله، وأولى الناس بالستر أهل البيت. أما الغضب والانتقام فهو دليل ضعف وليس دليل قوة، قال رسول الله ﷺ: “ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”، قال أبو حامد الغزالي في ضرورة ضبط قوة الغضب: “الرفق محمود ويضاده العنف والحدة. والعنف نتيجة الغضب والفظاظة. والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحدة الغضب. وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش التفكر ويمنع من التثبت، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولأجل هذا أثنى رسول الله ﷺ على الرفق وبالغ فيه”.
وخلاصة القول، فإن فضاء الأسرة هو مختبر حقيقي لقياس التربية على منهاج الرفق.