د. أحمد الفراك
المطلب الثاني: معالم ثقافة الرفق في المجتمع
1- الرفق بالإنسان من حيث هو إنسان، أو الرحمة العامة
من رحمة الأنبياء عليهم السلام وحكمتهم أنهم كانوا هَينين لَيِّنين في معاملتهم مع خلق الله من الناس والطيور والأنعام ومع جميع الطيبات التي تخرج من الأرض أو تنزل من السماء، فقد أعطوا في سِيرهم نماذج كاملة في التخلق بأخلاق الرفق مع الصغار والكبار، مع الخصوم والمخالفين، مع المرأة والرجل، مع القريب والغريب. بل حتى مع من ظلمهم وكذَّب دعوتهم وألحق بها وبهم الأذى، والأمثلة على ذلك كثيرة. مثال ذلك ما روي عنابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.نبي يطلب المغفرة لقومه المعتدين!فالأنبياء لا يقابلون الإساءة بالإساءة، ولا الاعتداء بالاعتداء، ولا القسوة بالقسوة، بل يقابلون ذلك بالصفح والعفو والغفران، وتلك هي أخلاق الكمال في بناء الإنسان الذي هو محور العمران الراشد والتمدن الرشيد الذي تجتمع فيه الفضائل، ويسعد فيه الناس متعاونين ومتنافسين سعادة ممتدة من الدنيا إلى الآخرة.
الإنسانية نفس واحدة في ذاتها متعددة في أعيانها، فجميع الناس إخوة من النفخة إلى النفخة، من نفخة الخلق الأول في الصدور إلى نفخة الصُّور والانتقال إلى البعث والنشور. وواحدة ٌفي إرث النبوة بوصفهم أبناء النبي آدم عليه السلام وأحفاده، وقد وزَّع الله تعالى عليهم التكريم الأول بالعدل فجعلهم بشرا في أحسن تقويم، وهو العدل “الذي لا يمكن أن يوجد عدل أكمل منه” بتعبير أرسطو،وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم اختارهم للتكريم الأعظم وهو حمل الأمانة وأداء الرسالة، فصار الأكرم منهم هو الأتقى، وليس الأقوى أو الأقدم، وانتهى التفاخر بالآباء والألوان والقبائل والطوائف والثقافات، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13)، و”من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء”،فما كانت نشأة الجماعات البشرية في أنواعها التقليدية والعصرية، وتطورها وانتشارها إلا صورا من أصلٍ واحدٍ غاية تكثره هي التعارف والتبادل، وتبقى التقوى هي القيمة المركزية في نظام القيم الأخلاقية الإسلامية التي تشد إليها باقي القيم الناظمة لعقد النظام الأخلاقي في الإسلام.
قال الشاعر:
الناس من جهة التمثيل أكفاءُ أبوهمُ آدمٌ والأم حواءُ
نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ
فإن يكن لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فالطين والماءُ
التذكير النبوي الأخير بذم التفاضل العرقي واللوني واللغوي جاء في خُطبة الوداع الشهيرة، قال النبي ﷺ: “يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى”، فأنهى هذا الخطاب نظريا تفاضل الناس بالأنساب والأقوام والألوان، وأسس لأخوةٍ عالمية عابرة للأجناس والأعراق والألسن، ولنظامٍ قِيمي يَعمُّ الإنسانية كلها في كل زمان ومكان.وعن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: “لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: “إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ الْعَامَّةِ”. ورحمة العامة هي رحمة جميع المخلوقات في العالم، أو قُل: رحمة عالمية.
وفي موضوع الرفق بالخصوم والمعتدين، سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ قائلة: “هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟” قال: “لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم، فناداني ملَك الجبال فسلَّم علي، ثُمَّ قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين؟”، فقال النَّبي ﷺ: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”، فحتى عندما يوشك أن يسيطر علينا اليأس من جيلٍ بأكمله استعصى على التربية أومُعتدٍظالم فالتفاؤل يحذونا في الأجيال القادمة التي يغلب الظن أنها ستنتبه إلى غلط الآباء وجهلهم وجهالتهم فتعرف الحق وتصحح المسير وتستقيم على الطريق.لذلك حث الإسلام على العفو في مواضع كثيرة، منها قول رَسُولَ اللهِ ﷺ: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ”، على خلاف فهم الجاهلين الذي يرى الرجولة والشهامة في الانتقام والكيد.
لا يوجد أي مسوغ في الدين لإهانة الإنسان وترذيله والتعنيف عليه والحط من كرامته أو معاملته معاملة لا إنسانية، والحالات الخاصة التي يجوز فيها استعمال القوة المشروعة هي حالة الدفاع عن الحق في الحياة إذا كان مهددا، حق الذات أو حق الغير، وما دون ذلك فالعنف فعلٌ شائنٌ وممارسةٌ دوابية لا تليق بكرامة الإنسان المؤتمن على الوجود، والذي من أجل ذلك سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما واستأمنه عليه.
إن العنف على الإنسان، أو عنف الإنسان على أخيه الإنسان رذيلة تاريخيةوشقاء مُظلم، ولكن أكثر الناس لا يعقلون!ينسى الإنسان مخلوقيته وائتمانه على نفسه وما سُخر له فيطغى ويشقى، ولا ينصت بقلبه لذلك الصوت السماوي الذي يناديه من داخله، بل يصم آذانه عن سماع الحق ويصر مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه الرصاص الـمُذاب، فيسبق عليه الكتاب فيصير شقيا فيما بعد.قال النبي ﷺ: “لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِىٍّ”، وشتان بين مجتمع الرحمة الذي يسع الجميع ويسعد فيه العامة، وهو المجتمع الأصلي، ومجتمع الشقاء الذي يضيق بأهله قبل ضيوفه، وهو المجتمع الطارئ في التاريخ؛ مجتمع الفتن.
ولقد كان الرفق في معاملة الناس منهاجا نبويا عند جميع الأنبياء عليهم السلام، وللمُطلع على سِيرهم أن يكتشف من غير عناءٍ مظاهر الرفق في دعوتهم لأقوامهم وتعليمهم إياهم، إذ خلدوا عليهم الصلاة والسلام أمثلة ناصعة في الصبر والحِلم والعفو واللطف.جاء شاب إلى النبي ﷺ يطلب منه أن يَأذن له بالزنى، فقال: “يا رسول الله ائذن لي بالزنا”، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: “مه مه”، فقال: “ادْنُه”، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: “أتحبُّه لأمِّك؟” قال: “لا والله جعلني الله فداءك”، قال: “ولا النَّاس يحبونه لأمهاتهم”، قال: “أفتُحِبه لابنتك؟” قال: “لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك”، قال: “ولا النَّاس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتُحِبه لأختك؟” قال: “لا والله جعلني الله فداءك”، قال: “ولا النَّاس يحبونه لأخواتهم” قال: “أفتحبه لعمتك؟” قال: “لا والله جعلني الله فداءك”، قال: “ولا النَّاس يحبونه لعماتهم”، قال: “أفتُحبُّه لخالتك” قال: “لا واللهِ جعلني اللهُ فداءك”، قال: “ولا النَّاس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه، وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه”، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء”. وهذا مثال من أمثلة كثيرة يقاس عليها لاستمداد منهاج الرفق النبوي في التعامل مع النفس البشرية التي جُبلت على الإنصات لمن يحسن إليها ويرفق بها، وعلى النفور ممن يُكرهها ويُعنِّف عليها. فبالرفق والتؤدة، تلين الطباع وتُتاح الفرص لتبادل القول وحمله على أحسن المحامل، وقبول النصيحة، فمن معاني التؤدة “التأني والتمهل والرفق”، في إسداء النصحوفي اتخاذ القرار ولو كان مشروعا وصائبا.
2- الرفق بالحيوان أو أخلاقيات رعاية الأنعام
لا يكون المسلم مسلما حقاولا المؤمن مؤمنا حقا حتى يحب جميع المخلوقات التي يتقاسم معها الوجود، من إخوانه في الدين، إلى إخوانه في الآدمية، إلى شركائه في الحياة على ظهر الأرض من حيوان وطبيعة حية وجامدة، قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(الأنعام: 38)، فالحيوان هو شريك الإنسان في الأرض والحياة وفي كثير من الخصائص البيولوجية والفزيولوجية، بالإضافة إلى ما يوفره للإنسان من ثروةاقتصادية وغذائية وجمالية، لذلك فللحيواناتعلى الإنسان المؤتمن في الوجود حق الرعاية والرفق والرحمة، إذ سُخرت له وذُللت بُغية استعمالها في مآربه الكثيرة،قال تعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَوَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَوَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل:5-8)،كيف لا يرعى الإنسان هذه الأنعام ويحفظ جميل خدماتهاوقد رافقته في رحلته الطويلة والشاقة على وجه الأرض، منذ خلقه الله، إن لم تكن قد سبقته في الوجود، وشاركت في سلمه وحربه، حياته وموته، غناه وفقره، وقد نسجت حول هاته الرحلة والرفقة آلاف القصص في جميع الذاكرات الثقافية.
لا ندري أهو الشر فطري في الإنسان لما نرى الاعتداء على الحيوان في كل مكان من كوكب الأرض؟ بل إن الإساءة للحيوانات بالقتل العمد أو تحت التعذيب أو التحريش كما لا زلنا نراه في ثقافاتٍ تدعي التقدم والتحضرتُخرج الإنسان من إنسانيته المزعومة، وتسائله عن ائتمانه على باقي الكائنات والأنعام التي سُخرت له لتيسير معايشه.ولقد وسَّع الإسلام مبدأ القيمة ليشمل جميع الكائنات، إذ نعلم أن امرأةدخلت النار في قِطة حبستها حتى ماتت جوعا، حيث “دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ”، إذ تركتها بلا طعام ولا حرية للبحث عن الطعام. ومن ذلك تظهر مسؤولية الإنسان الفردية والجماعية عن إطعام الحيوانات والعناية بها وفق معايير أخلاقية وقانونية مناسبة لوقايتها وتغذيتها وعلاجهاوحفظ وجودها ومنع الاعتداء عليها بالتعذيب أو التجويع أو الصيد العشوائي والجشع الذي يوشك أن تنقرض بسببه كثير من أجمل وأعرق السلالات في البر والبحر.
وقد كان النبي ﷺ يغضب أيما غضب إن رأى أو سمع شخصا يؤذي دابة، فعن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنهقال: “بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: “خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ”. قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّى أَرَاهَا الآنَ تَمْشِى فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ”، فغضب النبي ﷺ من لعْن الناقة ومنع صاحبتها من امتطائها بعد لعنها، وكأنها لا تحل لها!وكأن مجرد اللعن أفقدها الأهلية الأخلاقية للائتمان على هذا المخلوق المسخر لها.
كان النبي ﷺ يرفق بالحيوانات ويسميها أسماء جميلة، مثل تسميته لناقته بـ”العضباء”، ولفرسه بـ”اللحيف”،ولبغلته بـ”دُلدل” ولحماره بـ”يعفور”، وغيرها، تحبيبا لها ودعوة للإحسان إليها والرفق بها،ومعاملتها بالحسنى فهي نفسٌ تحس بطبيعة المعاملة التي تتلقاها من ممتطيها أو مستعملها أو من يتاجر فيها،في الحديث: “بينا رجلٌ يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا قال في كل كبد رطبة أجر”، وفي إضافة: “وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ، وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ “. فعلى رحمة الخلائق تترتب رحمة الحق.
وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: “مَرَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: “مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا”، لذلك يحرم اللعب بالحيوان عن طريق تعذيبه وإلحاق الأذى به، ولو على سبيل التسلية، كما يفعل كثير من الناس في عصرنا بالثيران والأكباش والديكة والكلاب،في الحديث: “اتقوا الله في هذه البهائم الـمُعجمة، فاركبوها صالحة، وكُلوها صالحة”.
3- الرفق بالبيئة الطبيعية أو بث أخلاق الرعاية البيئية
من الرفق في الإسلام، -وهو قيمة دينية ونفسية وروحية وأخلاقية وسياسية واجتماعية- إحسانُ المعاملة مع المحيط الطبيعي الذي يحيى فيه الإنسان ويُنشئ فيه معايشه ويُطور إنتاجه ويشيد عمرانه، ومعيار صلاح الإنسان هو تحملهالمسؤولية في حفظ صلاح بيئته الطبيعية (مجاله الإيكولوجي) وعدم إفسادها.فإذا كان الإنسان هو الكائن المؤتمن في الأرض وكانت “عمارة الأرض أمانة يحملها الإنسان”،فعليه ضمان السلامة البيئية لجميع الكائنات الحية التي تتقاسم معه الخِلقة الوجودية في الأرض ابتداء ثم الماء والهواء والتراب والكلأ؛ ولا يقدم على عمل يُفني هذه المخلوقات أو يُعذبها بأي وجه كان،فمن كان جاهلا لآثار فعله غافلا عن مخاطر لامبالاته فهو فاقد الرحمة ساقط الوعي، حتى ترتد إليه جهالته وغفلته تخسيرا في الكون وتتبيرا للحياة فيه.
– وتجمع الأبحاث والدراسات المختصة في “أخلاقيات البيئة”على أن مشكلات البيئة اليوم هي مشكلات إنسانية مشتركة بين جميع سكان هذا الكويكب الذي ينضب بالحياة والأحياء، فالأرض هي أمنا ووطننا المشترك الذي لا غنى لنا عنه، فـ”وطننا ليس المنـزل أو الشارع أو البلد الذي نعيش فيه، بل هو الأرض نفسها”، التي تحتضن حياتنا وموتنا،صلاحنا وفسادنا، استقامتنا وعبثنا بخيراتها، ونتيجة لجشعنا الذي لا نهاية له أضحت الأرض بمجالها الحيوي لا تطيق تهورنا ومغامرتنا، يقول إيفنإليتش: “إنالأزمةالكوكبيةالمعاصرةتجدجذورهافيإخفاقالمشروعالحديث،أيتتجذرفيإحلالالآلةمحلالإنسان،فقداستحالالمشروعالضخمإلىعمليةقاسيةلاستبعادالمنتِجوتسميمالمستهلك.”
من حفظ البيئة ورعاية شأنها احترام الجيل الحالي للقيمة الذاتية لعناصر الطبيعة المختلفة، وعدُّ وجود الفرد لا يتجزأ من علاقات مركبةوضرورية مع غيره من الأفراد، ومع جميع عناصر البيئة الطبيعية المحيطة به، بشكل لا يقتصر فقط على النظر المصلحي المادي المؤقت وإنما يستصحب الأبعاد الروحية والعاطفية جنبا إلى جبن مع العقل والمصلحة وفقه التدبير والإحكام، وإذا لم يفعل فإن هذا الجيل العاقسيتحول من جيل الخَلَفِ إلى جيل الخَلْفِ الذي خان الأمانة وقطع الرحم واتبع هواه فأفسد آخرته ودنياه، قال الله تعالى: ﴿فخلَفَ مِنْ بَعدِهِم خَلْفٌ أضَاعُوا الصَّلَاة واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوفَ يَلقَونَغَيا﴾(مريم:59)، وهم “قوم سوء”اتبعوا الشهوات بمعنى اتبعوا نمطا استهلاكيا يهلك الحرث والنسل، ويفسد في البر والبحر، ويستكبر عن عبادة الله، ويريدها عِوَجا، وكأن “الإنسانية متجهة نحو تدمير ذاتها من خلال جبروت طاقاتها التكنولوجية والعلمية الخاصة” التي تعتد بها وتتوهم أنها تحميها.
ويتم تغيير سلوك الإنسان من الإهمال إلى الرعاية على مستويين اثنين، مستوى التربية التي تتغير بموجبها الرؤية وتتجدد نية الرعاية، ومستوى التدبير الذي تُقنَّن بموجبه أفعال الرعاية وتُقعَّد. وكأن العناية بالإنسان سابقة عن رعاية البيئة ومرافقة لها في نفس الآن. وإذا كان الإنسان مكلفا بـ”إيداع الرعاية” كما يسميه طه عبد الرحمن، فإن مقتضاه هو “أن يحفظ المودَع لديه ما أودع من حيث الحقوق التي يقتضيها، فيؤديها كما ينبغي، على أن هذه المحافظة على الحقوق لا تمنع التصرف في الوديعة بما يجلب للمودَع لديه المصلحة ويدفع عنه المضرة؛ بل لعل الأصل في الوديعة المرعية هو الإذن بالتصرف فيها، لأن حقوقها محفوظة”، وهو يختلف عما يسميه بـ”إيداع الصيانة”، لأن الأول إلهي ويتملك بموجبه العبد تكريما له “ما أودعه المودِع الإلهي وأن يستكمل به تحقيق ذاته، متصرفا فيه بحسب مصالحه، على أن يراعي حقوق المودِع الإلهي في كل ودائعه”، أما الثاني فهو بَشري لا يتملك صاحبه وديعته، لأن “حقّه أن يحفظ المودَعُ لديه الشيء على حاله التي أُودِع عليها إلا أن يتعرض للضرر، فحينها، يعمل، بقدر الطاقة، على دفع هذا الضرر، حتى يسترده المودِع في أجل تُحدده الحاجة إليه أو يُحدده وجود الأمن؛ وبيِّنٌ أن دفع الضرر هذا لا يعد تصرفا في الوديعة، وإنما صيانة لها”، ليستنتج بعد ذلك أن “الائتمان عبارة عن إيداع رعاية، بحيث يكون كل ما خلق الله، جل جلاله، من أجل الإنسان هو عبارة عن ودائع أودعها الله إياه، يتملكها كيف يشاء، ويتحقق بها كيف يشاء، شريطة أن يصون حقوقها”، بوصفه مؤتمنا يرى كل الموجودات في العالم عبارة عن أمانات لديه تُقيِّد تصرُّفه بها صيانة ورعاية.
من الرعاية إذن”حفظ الحياة على الأرض” التي يتساكن على ظهرها ويقتات من خيراتها جميع الناس، صالحهم وطالحهم، والحفظ هنا مطلبٌ تشترك فيه جميع ثقافات سكان الأرض شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، ولعل ذلك ما تشترك في الدفاع عنه الفلسفات البيئية المعاصرة، وخاصة تلك التي “تضع القيم والغايات الخُلقية فوق المادية…وتعنى بحالة الثقافة والتعليم والقانون والمحبة والخلقية بأكثر مما يعنى بالإنتاج السنوي”، فهناك مدارس فلسفية بيئية ترفض النموذج التخسيري الاستهلاكي لطيبات الأرض وكنوز الطبيعة وثروة الكون المحيط برا وبحرا.
للوازع التربوي والأخلاقي بالغ الأثر فيتذكير الإنسان الفرد أولا بمسؤوليته عن حياة ومستقبل النوع البشري وما يحيا معه من كائنات، وفي توجيه الإرادات الخيرةوالنفوس الطيبة وجهة الحد من الإسراف والتبذير في نمط الاستهلاك المادي المعاصر الذي لا يراعي صحة البيئة وسلامتها، عبر وضعضوابط أخلاقية ومجتمعية “صارمة” من شأنها أن تُسهم في صناعة وعيٍبيئي جديد، يحرر الإنسانية من العيش داخل قفص العقلانية البيروقراطية بتعبير ماكس فيبر، التي توحي بكونيتها المزعومة،ويوقظ الضمير البشري للكفِّ عن نزواته الاستهلاكية التي لا تعلُّق لها بتجويد أسلوب الحياة أو التحضر، فـ”ليس ثمة صلة بين درجة الرفاهية التي يستمتع بها وتحقيق الحضارة. بل على العكس، إن الاستغراق في راحة البال هو أكثر العلامات الدالة على الاضمحلال الحالي أو الوشيك”،ولا نجاة من هذا الاضمحلال وهذه المخاطرة إلا بتوزين العامل النفسي الذاتي وتهذيب النزعات المتوحشة في الإنسان وحمله برفقٍ على رعاية البيئة التي تحملنا ولا نحملها. وبعد ذلك ومعه يتكرر الضغط ويتقوى على المؤسسات الدولية للتدخل عبر وضع تشريعات خاصة بحماية البيئة من قبيل ما يسمى بـ”القوانين البيئية الدولية” وتنفيذ مقتضياتها، خوفا من المستقبل كما يرى هانس جوناس، حيث “أصبحت لدينا القدرة على تدمير الطبيعة،فإنه بسبب أفعالنا هذه يجب أن نتحمل المسؤولية على استمرار الحياة على كوكب الأرض في المستقبل”، أو نهوضا بأمانة الاستخلاف في العالمالائتمان الفطري، “الذي ينص على تحمل المسؤولية تجاه جميع الكائنات”كما يرى طه عبد الرحمن، إذ يقول:”لا خلاف أن الأمانة تقيد التصرف بالمؤتَمن عليه، صيانة ورعاية، والمؤتمن عليه هنا هو العالم بأسره … إذ تُقَوم أخلاق الناس بما يجعلهم يعاملون خيرات العالم، لا على أنها مجرد موارد يستغلونها، وإنما آيات لها اعتبارها”.