صلاح الدين المساوي
مدريد 3يناير2024
يمكث المرء في وطنه يترقب الفرصة التاريخية للعبور إلى الضفة الأخرى والفوز (بجنة الفردوس ) في زعمه. بل و يحلم بخوض مغامرة ركوب قوارب الموت لينسلخ من كل قيد يشده إلى القرية الظالم أهلها ،فترتفع معنوياته إلى عنان السماء، ليتخلص من قانون جاذبية أرضه شيئا فشيئا، إلى أن يصير طائرا ينعم بعبير الحرية ويتنسم عبق الحياة، وبينما هو منهمك في السعي و الكد وعفس الدنيا، إذا ب”بسحر الفكرة” تخترق شرايين وجدانه فتراوده ذات الشمال وذات اليمين لتنفخ في روعه حلم العودة إلى الوطن !
لا أدري كيف يستسلم لهذا السحر المتربص به لأول وهلة ،دون أدنى مقاومة،( على مستوى النظري أقصد أما الواقع فشيئ آخر…!) ،يعتقد المسكين أن الهجرة هي غربة واغتراب ،وبُعد وابتعاد ،لا تصلح إلا للجمع والكسب، وعما قريب سيحين وقت العودة، ثم يرتاح من التعب والضنك الذي رافقه طوال حياته، لكنه نسي أن الزمن خداع والعمر ينصرم بسرعة فائقة و في صمت رهيب ! إذ بالأمس القريب كان يودع أقاربه ليغادر في جو ممزوج بالحزن والفرح معا ،وهو في عمر الزهور ، حيث يتمتع بكامل الفتوة، والطموح والتفاؤل يملآن عليه كل جوانبه ،تطلعا واستشرافا لغد أفضل ومستقبل زاهر…! .وهاهو اليوم قد بلغ من العمر عتيا ،ولم يعي كيف تفلتت الأيام والأعوام بين يديه ،وهو لازال يمني نفسه بضرورة العودة إلى وطنه يوما ما، لينعم بالمكث بين أحضان أهله و التربع على ترب أجداده…لكن هيهات هيهات، ففي أرض الهجرة قد ولد له الأبناء والبنات وتعلموا ودرسوا وتخرجوا وتزوجوا وضربوا جذورا عميقة هنا وهناك ،حتى أصبح الرحيل عنهم شبه مستحيل …! إنهم فلذات كبده ومن أجلهم ذاق طعم الحلو والمر ،فكيف يطيب له المقام دونهم !!!
في حقيقة الأمر ،أعتبر” حلم العودة “عند الكثيرين هو مجرد “هوس الحنين” يهجم على صاحبه ليملأ فراغ روحه ويشتت آفاقه في الدنيا ويضيع عنه مصيره في الآخرة، تسويفا وانتظارا للذي يأتي وقد لا يأتي …!! ،فلطالما ضيع المرء أعز ما يملك من وقته وصحته وماله وشبابه في بناء بيت المستقبل في الوطن الأم، وإنجاز مشروع إقتصادي متواضع ،لتأمين حاجيات ما بقي من العمر ،لكنه في الأخير تبين له أنه كان يعيش على السراب، كان مجرد حلم وهوس يومي رافقه طيلة حياته، فقد علٍم علْم اليقين أنه من المستحيل أن يتخلى عن بلد عاش فيه حرا و كريما معززا، وله فيه ذرية وأحفادا ثم يرحل إلى وطن يحكمه الاستبداد، الذي يعتبر الإنسان فيه جزء من ضيعته يفعل به ما يشاء!!! . هذا رجل في مقتبل العمر يسترجع شريط حياته ويحكي لي متحسرا : لقد دخلت إسبانيا في بداية التسعينات من القرن الماضي مسرورا مزهوا بما أملك من موفور الصحة وعنفوان الشباب …فذهبت أعمل في كل شيئ أجده متاحا لي، لا يهمني سوى جمع المال ، وكلما حصلت مبلغا لا بأس به أرسلته إلى البلد من أجل بناء بيت واسع وجميل وسط مدينتي …وبالفعل قد حققت مطلبي وزيادة، لكن في النهاية وجدتني كمن كان يصب الماء على الرمل …!! لقد إكتشفت متأخرا وأنا في سن السبعينات أنني لم أكن في حاجة ماسة لمثل هذا البيت الذي صرفت من أجله كل شبابي وصحتي ومالي …إنه منزل من ثلاث طوابق، عاد مهجورا بعدما سكنته والدتي وحييييدة، ولم أحظى بصحبتها قط سوى أيام معدودات…! ثم تنهد قائلا إيه يا «أنا» لقد ضيعت فرصة عمري في الكد والجمع ولم أفز بشئ ، فلا أنا سافرت و تجولت عبر العالم وأنفقت مالي على الاستكشاف والاستطلاع، وقديما قيل (من جال كثيرا أفضل ممن عاش كثيرا)، ولا أنا أتممت مسيرتي العلمية في البحث والطلب و القراءة والكتابة لنوٓرٍث علما ينتفع به وتصلنا رحمته في قبورنا…ترى كم كنت أتمنى أن أرجع إلى بلدي يوم أبلغ سن التقاعد، وكنت أنتظر ذلك بشوق وحنين… لكن لما حان الوقت وجدتني أعاني من أمراض شتى، وأحتاج إلى رعاية صحية دقيقة ومنتظمة، و إلى عناية كبيرة من طرف الطبيب الذي يتابع حالتي الصحية من زمان، وفق معاملة طيبة وسلوك إنساني راق جدا يشعرك بالشفاء قبل تناول الدواء ، فكيف أترك كل هذا وأرجع إلى” المجهول” وطني…!
وخلاصة القول إنه من لم يرجع مبكرا إلى بلده ،فليوطن نفسه على التعايش والاندماج والعمل الجماعي ولْيفِق قبل فوات الأوان، من أجل الحضور الإيجابي داخل المجتمع الذي ينتمي إليه،مشاركة مع غيره في تفعيل المشاريع الإنسانية الموحدة ، وقوة إقتراحية للمساهمة في بناء نموذج العمران الأخوي الذي يسوده السلم والإخاء والحلم والوفاء ، كما لا ينبغي له أن يغفل عن المسؤولية الدعوية والتربوية الملقاة على عاتقه في بناء المساجد ومدارس اللغة العربية لتعليم أبناء المسلمين الدين الحق ،وتربيتهم على الخلق الحسن، وتحسيسهم بأن هذا هو وطنهم الذي أمروا بحبه والتفاني في خدمته ،ففيه ولدوا وفيه ترعرعوا وفيه سيعملون لدنياهم وآخرتهم. وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
كما يجب على العلماء والدعاة أن يعلموا الناس بأن العباد كلهم إخوة في الآدمية، وأنه لا فرق لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى… وأن وجودنا في هذه الأرض ليس فقط من أجل الخبز ،وإنما لنا رسالة يجب على المسلمين أن يبلغوها لكل الناس بالأخلاق و المعاملات قبل الكلام و المحاضرات ،وليكن شعارنا “لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” .
ومن لم يهتد إلى السلوك الأقوم، يعش أبد الدهر معذبا بين هوس العودة وواقع مرير ، إلى أن يحين الأجل المحتوم.