Site icon أروى بريس – Aroapress – جريدة إلكترونية مستقلة تصدر من إسبانيا

هكذا تتفانى الملوك في إسعاد شعوبها

عبدالعزيز سارت

يجمع المتتبعون من أهل الاختصاص على ان الربع قرن المنصرم من حكم جلالة الملك محمد السادس نصره الله، و الذي انطلق بعيد تنصيب حكومة التناوب التي توجت محطة فاصلة من مسلسل الانفراج السياسي الذي رتبه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، يمثل نقلة نوعية في التاريخ السياسي لبلادنا على مستوى اشتغال مؤسساتها و الفلسفة الناظمة لشؤون الدولة و الحكم و الإصلاحات الكبرى التي رافقتها.

و يظهر جليا من خلال الإشارات الأولى و المبادرات التي أطلقها العهد الجديد، ان هناك فكرا سياسيا قوامه التحديث و العدالة الاجتماعية و الترابية، والانتقال الديمقراطي و التنمية البشرية، علاوة على قضية وحدتنا الترابية.

فكان من بين الخطوات الاولى تعيين ناطق رسمي باسم القصر الملكي، و هي سابقة محمودة في سبيل تحديث قنوات التواصل بين المؤسسة الملكية و الفاعلين السياسيين و الرأي العام الوطني و الدولي. و واكب هذه الخطوة عودة المعارض أبراهام السرفاتي إلى المغرب و رفع الإقامة الجبرية عن الشيخ عبدالسلام ياسين. و كان الحدث المدوي هو إقالة الرقم الصعب في معادلات الحكومات المغربية المتتالية منذ سبعينيات القرن الماضي، وزير الدولة وزير الداخلية السيد إدريس البصري، تلاها اعتماد منهج جديد يتوخى الحد من السلطوية بتبني ما سمي بالمفهوم الجديد للسلطة. تعقبها اختيار نهج جهوية متقدمة من أجل إحداث قدر من التوازن التنموي و الاقتصادي بين الجهات المشكلة للدولة و تحفيز التنمية المحلية و تحريرها من عقال المركزية.

لا يختلف اثنان في اعتبار ان ملف حقوق الانسان و قصايا التعذيب و المفقودين كان يؤرق الدولة المغربية علاوة على ما كان يكتب و ينشر عنها في المحافل الدولية و الرأي العام داخل المغرب و خارجه و يقدم صورة سلبية عن بلادنا تصنفنا ضمن البلدان التي لا تقيم وزنا لحقوق الانسان و كرامة المواطن.

و جاءت مبادرة معالجة ملف انتهاكات حقوق الإنسان بتنصيب هيئة الانصاف و المصالحة للتحقيق في وقائع الإنتهاكات الجسيمة و التجاوزات التي عرفتها الفترة التي اصطلح على تسميتها بسنوات الرصاص.

و أصدرت هيئة الإنصاف و المصالحة تقريرها الشهير الذي تبنت الدولة المغربية نتائجه بشجاعة و نزاهة و دعم صريح كان وراءه و محركه جلالة الملك. و قد كان لنا ،كجالية مغربية مقيمة بالخارج، نصيب من هذا التقرير، حيث تلقاه جل الفاعلين و الحقوقيين بارتياح كبير، و بالخصوص عند تناول التقرير ملف الوداديات السيئة الذكر و التاريخ، التي عاثت في ديار المهجر عثوا شديدا و فسادا كبيرا.

و يشكل خطاب أجدير و ما ورد فيه من قرارات، خطوة حكيمة و رؤية متبصرة وضعت الأسس لمغرب الهوية المتعددة الأبعاد و الروافد و المكونات و بلورة سياسات عمومية للنهوض بالثقافة و اللغة الأمازيغيتين. و كان اول هذه الإنجازات في طريق النهوض بثقافتنا الأمازيغية إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي يراكم اليوم عددا كبيرا من المؤتمرات والأبحاث و الدراسات الأكاديمية الرصينة الوازنة.

كما كان للمراة و الأسرة المغربيتين حظ وافر من هذه الإصلاحات، حيث حظيت مدونة الأسرة بعناية ملكية كبيرة نتجت عنها مراجعة كثير من البنود التي طالما اعتبرتها المنظمات الحقوقية و الجمعيات النسوية مجحفة في حق المرأة. و ها نحن اليوم، نعيش من جديد مرحلة واعدة من مسلسل مراجعة مدونة الأسرة، بمبادرة كريمة من جلالة الملك.

و في مجال التنمية، تعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعبيرا عن التزام سياسي صادر عن أعلى سلطة في البلاد بمحاربة الفقر القروي و الإقصاء الحضري و الهشاشة الاجتماعية و الترابية.

و باعتماد مقاربة تشاركية و مندمجة و تبني منهجية اللامركزية انطلقت دينامية اعتمدت مبدأ التشبيك و التشاركية أدت إلى تطوير هندسة اجتماعية على المستوى الترابي و تنشيط و انخراط مختلف مكونات المجتمع المدني في مسلسل التنمية.
أما فيما يتعلق بقضية وحدتنا الترابية، فقد حظي مشروع الحكم الذاتي، الذي اقترحه المغرب، بتاييد واسع من طرف المنتظم الدولي حيث ثمن هذا الاخير عناصر الجدية و الواقعية التي تجسد رغبة المجتمع الدولي و مطابقتها للمعايير القانونية و السياسية المعمول بها. و كانت كل المقترحات الواردة في مبادرة الحكم الذاتي في ظل السيادة المغربية، حريصة على تمكين جميع الصحراويين المقيمين بالمغرب أو خارجه من التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية من خلال هيآت تمثيلية، تشريعية و تنفيذية وقضائية.

و يشكل دستور 2011 محطة استثنائية في التاريخ الدستوري المغربي، حيث ستناط مهمة المراجعة الدستورية بفريق من الخبراء و الأكاديميين المغاربة، بخلاف الدساتير السابقة التي كانت لا تخلو فقراتها من بصمات و لمسات فقهاء دستوريين أجانب. و يعتبر الخبراء دستور 2011 الأكثر تقدما على مستوى القارة الإفريقية و المغرب الكبير و العالم العربي.

و يعبر جلالة الملك في كثير من المناسبات عن كريم عنايته بمغاربة العالم و حرصه الشديد على خدمة مصالحهم بما يرضيهم و يعزز عرى الأواصر التي تجمعهم بوطنهم الأم. و نذكر هنا بالخطاب التاريخي المؤسس ، خطاب 6 نونبر 2005 و ما ورد في مضامينه حول حق مغاربة العالم من المشاركة السياسية و حقهم في المواطنة الكاملة، و خطاب 20 غشت 2022 مرورا بمقتضيات دستور 2011 و ما تضمنته بخصوص المشاركة في الانتخابات و تمثيلهم بالبرلمان.

و اذ نعتز و نفتخر بالعناية و الرعاية الساميتين اللتين ما فتئ يوليهما جلالته لمغاربة العالم، فإننا نأسف على ما آل إليه مجلس الجالية في مسلسل اندحاره و ما راكمه من فشل و إخفاق حيث لم يرق و لو مرة واحدة منذ تأسيسه، إلى مستوى عناية جلالة الملك بمغاربة المهجر، بل تخصص في العمل ليل نهار ضد مصالحهم المشروعة و حقوقهم الدستورية الثابتة و إعمال سياسة الإقصاء و التهميش و منطق اللائحة السوداء في حق الفاعلين الجمعويين الجادين، المنبثقين من صفوف المجتمع المدني الديمقراطي لمغاربة العالم.

كما نتسائل عن مصير الوزارة المكلفة بمغاربة العالم، و التي اختفت عن الأنظار و لم يعد لها أثر يذكر. و لا نتردد في تحميل الحكومة الحالية التي تراكم الفشل و الإخفاق مسؤولية الإقصاء السياسي و المشاكل التي تعاني منها الجالية المغربية بالخارج.

و من باب الإنصاف و النزاهة الأخلاقية و الفكرية و إحقاقا للحق، ننوه بمؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج و ما تقوم به منذ تأسيسها في خدمة مصالح الجالية المغربية بالخارج، و نهنؤها على ما راكمته من ثقة و سمعة طيبة بين مغاربة العالم من كل الفئات و الأعمار و ما تزخر به من أطر أكفاء يمارسون سياسة القرب و الإصغاء بمنظور إنساني نبيل أصيل في الثقافة المغربية و قيمها الأخلاقية الخالدة، فحق لهذه المؤسسة المنيفة أصدق عبارات شكرنا الجزيل و امتناننا العظيم.

و في الختام، نلتمس من الأعتاب الشريفة و من واسع نبل جلالة الملك حفظه الله، عفوا ملكيا كريما يعيد الحرية إلى المعتقلين من نشطاء حراك الريف و الصحافيين، و النشطاء الساسيبن. و ما خاب من قصد السدة العالية بالله.

و إذ نشارك كل فئات الشعب المغربي النبيل فرحة هذه الذكرى السعيدة، نجدد تهانينا الحارة الصادقة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله و ندعو له بالسداد و التوفيق و الصحة و العافية و السعادة و ان يحفظه في ولي عهده سمو الأمير مولاي الحسن و صائر أفراد الأسرة الملكية الكريمة.

عبدالعزيز سارت

بروكسل، 29 يوليوز 2024