Site icon أروى بريس – Aroapress – جريدة إلكترونية مستقلة تصدر من إسبانيا

عراكُ طوكيو… ولادبلوماسية المصارعة!

محمد الشرقاوي

أستاذ تسوية النزاعات الدولية

جامعة ميسن – واشنطن

هي لازمةٌ انفعاليةٌ وانطباعيةٌ جامحةٌ تتكرّر كلّما كتبتُ أو حاضرتُ عن موضوع يتعلّق بالأزمة الراهنة بين المغرب والجزائر ووضع جبهة البوليساريو وقرارات الأمم المتحدة. وبحكم تشبّع المزاج المغاربي بتفريعاته الجزائرية والصحرواية والمغربية بثقافة “النّيف”، و”الدّم سخون”، “ولو طارت معزة”، وبقية الأنَفَات المتعالية ومزاج التعصب وركوب أعلى الشجرة، تنمّ الرّدود والتعليقات في أغلبها عن تصوّرات متباعدة واستقطابات، بل وانشطار إلى شيع وقبائلَ تتنافس على احتكار “المعرفة” وملكية “الحقيقة”. وتتعسّف بالتّالي في تأويل ما أكتب، بل وتَتِيهُ في تصنيفي إمّا “مخزنيا”، أو “عيّاشيا”، أو “انفصاليا”، أو “كرغوليا”، وبقية الألقاب الشّاردة التي يسقطها أصحابها في الجو. وهذا أسلوب من لا حجّة لديه!

من يعمل مثلي في مجال تسوية الصراعات يتمسّك بالتّنقيب عن الوقائع الباردة، بعيدًا عن حرارة المواقف الحماسية والقوميات الانفعالية، خاصّة عندما تنمّ بعض الأفعال والمناورات عن بُعدٍ رمزيٍ أو استغلالٍ إعلاميٍ لتسجيل نقاط معينة أمام الكاميرات من أجل تصفيق الرّأي العام المناصر لهذا الطرف أو ذاك، كما حدث في اجتماع “تيكاد 9” في طوكيو خلال اليومين الأخيرين. وثمة مسؤولية أكاديمية وأخلاقية أيضا بضرورة تشريح القرارات والخطابات السياسية لتصفية الوقائع من الإسقاطات السياسية أو التوشيات الأيديولوجية باعتبار أنّ كلّ طرف يلوّح بمجرّد “نصف الحقيقة” وبهندسة مواتية في تركيب الخطاب، وليّ عنق المنطق السياسي، وتطويع التاريخ، والتلاعب بسيكولوجيا الجماهير حسب تعبير غوستاف لوبون. وبذلك، تتحرّك عملية استقراء المعطيات والمدخلات واستخلاص النتائج والمخرجات داخل مثلّث ملتهب حماسي في أغلبه، ولا يقبل الرأيَ المستقلَ أو الخلاصةَ غير المحابية. فيقلّ الأمل في أن أطرافًا معاندةً متشنجةً بطبعها قد تستوعب قياس العقل والتواضع للحقيقة، باستثناء فئة قليلة من ذوي الألباب.

لا غرابة أن يثير تحليلي لمشهد العراك غير الدبلوماسي وسوء تقدير الوفد الجزائري في طوكيو تضخّما في تشنّج أنصار طرف معين، مثلما ثارت حفيظة أنصار طرف آخر عندما انتقدتُ الإعلان الرئاسي للرئيس السابق دونالد ترمب الذي وعد به ب”الاعتراف بمغربية الصحراء” و”تشييد قنصلية أمريكية في الداخلة” في 10 ديسمبر 2020، باعتبار أنه لم يستند إلى قاعدة دستورية قوية مادام أنه لم يغدو معاهدةً يُوقع عليه أعضاء مجلس الشيوخ، وبالتالي تلتزم بها الولايات المتحدة، وليس مجرد حكومة ترمب، أو كما قلت وقتها “التحفيظ السياسي” بمنطق “التحفيظ العقاري“.

أتمسّك بعقلانيتي وأخلاقيات الفعل الأكاديمي وحياد فلسفة تسوية الصراعات والوساطة والتحكيم وبقية آليات الحدّ من التّصعيد. ولا أمِيلُ ولا أُسْتَمَالُ نحو تأليب المشاعر والنفخ في قِرَبٍ مثقوبة هنا أو هناك. ويكون من الأجدى بمن يُغذق عليّ تلك الصّفات القدحية، أو يُسقط عليّ جامّ لعناته وأحقاده، أن يردّ على مضمون ما كتبت أو يدحضه إنْ وجد فيه أي مغالطات. ويحرص التحليل على أن يكون قائما بذاته بمقومات الاستقلال والضوابط الأكاديمية. فإن وجد أنصار هذا الفريق فيه ضالّتهم، اعتبروه “أكاديميًا وموضوعيا”. أمّا إذا كشف لهم ما لا يودّون سماعه، سارعوا بهرولة الانفعال إلى تصنيفه “دعائيا”. وهو تذبذبٌ متأرجحٌ مألوفٌ من كافة أنصار المواقف المتنافسة مادام هناك مغاربيون تستهويهم الجذبة السياسية والعمى الأيديولوجي.

قال أحدهم: يُشْتَمُّ من مقالتك “رائحة الميل نحو الطرح المغربي”. فرددتُ إن هناك حواسّ متأرجحة الشمّ والذوق لديكم، مثلما “شمّ آخرون في الأمس القريب “رائحة الميل نحو الطرح الجزائري”. وقد حان الوقت لكم جميعا لعلاج أنوفكم المزكّمة عند أقرب عيادة وصيدلية. وبعد العلاج، ستنفذ رائحة تحليل الصراعات والطرح المستقل إلى ألبابكم دون عناء…”

تحوّلت المؤتمرات اليابانية الأفريقية للتنمية، سواء في الجولة الثامنة في تونسفي أغسطس 2022 أو الجولة التاسعة حاليا في طوكيو في أغسطس 2024،إلى مناورات متجددة من قبل الجزائر في إقحام ممثلالجمهوريةالصحراويةالمعلنة من جانب واحد، ولا تعترف بها الأمم المتحدة ودول الاتحادالأوروبي، وأيضا اليابان التي شدّد وفدها في المؤتمر على أنحضور أيكيان لا تعترف به اليابان كدولة ذات سيادة في اجتماعات تيكاد 8، بما في ذلكاجتماع كبار المسؤولين واجتماع القمة، لا يؤثر على موقف اليابان فيما يتعلقبوضع هذا الكيان.”  

يتسم موقف حكومة طوكيو بالوضوح بعدم الترحيب بوفد البوليساريو، ويلغي ماذهبت إليه صحيفة الشروق الجزائرية التي كرست تبشيرا سياسيا غير واقعيبقولهامحاولة من وفد النظام المغربي الاعتداء الجسدي على الوفدالصحراوي، وهو التصرف الذي تحوّل إلى فضيحة في العاصمة اليابانية،استسلم في الأخير ممثلو النظام العلوي للأمر الواقع، أمام صمت السلطاتاليابانية التي لم تتجاوب مع المطالب المغربية بإقصاء الوفد الصحراوي.”

أتمسّك بعقلانيتي في تحليل ما حدث في اجتماع طوكيو خلال جلستيْ الجمعة والسبت، وأبدأ بشريط الفيديو الذي يستعرض ما حدث داخل قاعة الاجتماع. ويثير مسعى الوفد الجزائري للتحايل على مشهد الاجتماع وزرعبطاقةالجمهورية الصحروايةقبيل بدء الجلسة بعض الملاحظات والأسئلة الباردة:

1. جسّد عراك طوكيو تشنّجا وسوء تقدير متوازييْن لدى الدبلوماسية المغربيةوالدبلوماسية الجزائرية معا. وبدلا أن يحاول الدبلوماسي المغربي استبعادإسم “Sahara Republic” ببادرة عنف فجّ، كان للوفد المغربي أن يسجلتحفظه لدى سكرتارية المؤتمر ووزارة الخارجية اليابانية، وهو ما تقتضيهالأعراف الدبلوماسية الدولية. وما بُني على تشنج سيأتي بتشنج مضاعفعندما أمسك به الدبلوماسي، أو المصارع  الجزائري، وأسقطه أرضًا. وهذهحالةٌ لا تؤكد انقلاب الفعل الدبلوماسي إلى فعل لادبلوماسي ممعن فيضحالته فحسب، بل وأيضا تثير إشكالية جديدة في تحديد المفاهيمالمتحورة: هي الدبلوماسية المغاربية بشقيها المغربي والجزائري من تصنيفعراك رياضة الجيدوأمعراك المصارعة الرومانية، أم من صنف جديدابتكره هؤلاء المغاربيون، ويمكن الاصطلاح عليه ببدبلوماسية المناطحاتالجسديةللتبشير بظهور رياضة جديدة عند تقاطع السياسة والرياضة فيالأدغال المغاربية.
2. إذا كانت سكريتارية المؤتمر ووزارة الخارجية اليابانية قد وجّهتا الدّعوة إلىوفدالجمهورية الصحروايةأوجبهة البوليساريورسميا، فهل يحتاجالسفير الامين باعلي لأن يُخرج إس Sahara Republic” من محفظتهويُقحمها في غير موضعها من الترتيب الابجدي الاعتيادي “S” عنوةً بيندول “Z” وهي زامبيا وزمبابوي. يقول بعض المشاركين في المؤتمر إن السيدبعلييحمل جوازا جزائريا، وأنه رفض الرد على سؤال ما إذا كان قدتلقى الدعوة من الحكومة اليابانية دعوة بصفته ممثلا عنالجمهوريةالصحراوية“. يمكن للسيد باعلي حسم الجدل بنشر نسخةالدعوةالرسميةفي هذا الصدد؟ تحضر الدول عادة بمكانتها الاعتباريةوالاعتراف الدولي بوجودها تلقائيا، فهل أصبح تهريبجمهوريةيتمّ فيحقيبة يدوية على طريقة تهريب البشر في حاويات؟
3. أوضحت الحكومة اليابانية موقفها بالقول: “حضور أي كيان لا تعترف بهاليابان كدولة ذات سيادة في اجتماعات تيكاد 8، بما في ذلك اجتماع كبارالمسؤولين واجتماع القمة، لا يؤثر على موقف اليابان فيما يتعلق بوضع هذاالكيان.” وقد تفادت سكريتارية المؤتمر حدوث استعراضات عضلية أخرىفي جلسة السبت التي تحدث فيها وزير الخارجية الياباني كاميكاوا يوكووممثل موريتانيا وممثل الاتحاد الأفريقي. وقال مسؤول ياباني لمراسل أرابنيوز إنناسنتخذ القرار المناسب.” وحضر السيد بعلي في جلسة السبتبعد جهود وفديْ الجزائر وجنوب أفريقيا إقناع سكرتارية المؤتمر ومسؤوليوزارة الخارجية اليابانية الذين أوضحوا مجدّدا أنّ بلادهم لا تعترفبالجمهورية الصحرواية“. وينبغي التذكير بأن هندسة الخطاب أو تركيبالصورة المنشودة لا تغير برغماتية الحكومة اليابانية في هذه المرحلة.
4. أن وزارة الخارجية الجزائرية لم تأخذ العبرة مما حدث في اجتماع تونسقبل عامين، وإنما تمسّكت بعنادها وانفعالها بأن تتحدى إرادة اليابان وقرارالاتحاد الأفريقي، وتتعامل بمنطق الفوقية ومحاولة فرض الأمر الواقع علىدولة أسيوية ذات سيادة ومنظمة إقليمية لها ضوابط العضوية وشروطالتمثيل في المؤتمرات الدولية. ويدرك وزير الخارجية أحمد عطاف ومسؤولوالاستخبارات الجزائرية جيدا أن بروتوكولات المؤتمرات الدولية لا تخضعلاندفاعات #التحايل أو بهلوانيات التمويه والخديعة في اللحظة الأخيرة منبدء المؤتمر، أو التنطّع لما تقرر مسبقا في ترتيب القاعة وتسلسل مقاعدالتمثيل للدول حسب الترتيب الأبجدي، وأيضا تحديد جدول الأعمال وأسماءرؤساء الوفود الذين سيلقون الخطابات.
5. لا ينال مشهد التراجيديا السياسية بحدوث مصارعة بدنية فعلا ووقوع بعضالمشاركين أرضا من سمعة الحكومة اليابانية ومستوى تنظيم المؤتمر، بليضع الدبلوماسية الجزائرية في “خانةاليكّ”، كما يقول أصدقاؤنا الشّوام. ويسقط عليها انطباع الانفعال والتعنت، وليس الفعالية أو المنحى البراغماتيفي تدبير أحد الملفات الرئيسية في سياستها الخارجية من سجالات الاتحادالأفريقي.. إلى اجتماع طوكيو.. إلى جلسات مجلس الأمن الدولي.
6. كانت الجزائر تتمسك منذ 1975 بأنها ليست طرفا في الصراع وأنه ثنائيحصريًا بين البوليساريو والمغرب، بل وتنصّلت من الاستجابة لدعوات الأممالمتحدة بالمشاركة في مفاوضات ينبغي أن تتمّبحسن نية ودون شروط،كما أوصت قرارات مجلس الأمن خاصة في السنوات الأربع الماضية. بيد أنما قام به الوفد الجزائري، سواء من خلال مشهد التحايل في الجلسة أوتمرير بطاقة هوية أحد الدبلوماسيين الجزائريين إلى ممثل البوليساريو عندالتقاط الصورة التذكارية الجماعية في اجتماع طوكيو، يعزز القناعة لدىالحكومات والرأي العام العالمي أن الجزائر تتصرّف على أنها صاحبةالوصاية والرعاية الدبلوماسية، وأنها بالتالي مصدر الدعم المالي والسياسيلجبهة البوليساريو. وتمهد لخلاصة حتمية مفادها أن وضع جبهةالبوليساريو سلبا وإيجابا رهين بالاستراتيجية الجزائرية، مما يعيد إلىالذاكرة بداية الصراع وسط خلافات وتحديات شخصية بين الراحلين الرئيسالهواري بومدين والملك الحسن الثاني.
7. ملاحظة أخيرة وهي الأكثر سلبية عندما تصبح المهام الدبلوماسية أحيانا عرضة لاجتياح مركّب التشنج النفسي والتعصب إلى حد أنهما يُفرغانها من روحها ومحتواها. فلا غرابة أن يكون الوفد الجزائري والوفد المغربي قبل وخلال المؤتمر مشدوديْن بالكامل إلى هذه المعركة الدبلوماسية بأبعاد سياسية في ظاهرها، لكنها مجرد أبعاد رمزية في باطنها. فقد أصبحت قضية تمثيل “الجمهورية الصحراوية” من عدمه أمّ المعارك وأقصى المقاصد أهم من التركيز على الغاية من المؤتمر من أساسه. ولا أحد يسأل عن حصيلة مشاركة الوفدين في باب التعاون وآفاق التنمية ضمن هذا التقارب بين اليابان والدول الأفريقية.

8. الملاحظة الأخيرة تفيد بأن ما حدث في تونس وما يحدث في طوكيو يجسدبنية التفكير لدى رأس الدبلوماسية أحمد العطاف في هذه المرحلة، وتوحيبمقارنة ضمنية مع بنية تفكير سلفه رمطان لعمامرة الذي لم يكن ليوافق علىالأرجح بتلك المجازفة في مؤتمر دولي وفي ضيافة بلد أسيوي يشتهر أهلهبالتدقيق في صغائر الأمور وكبائرها.

قد تكون خلاصاتي بمثابة دوائر تكشف مدى تباعد الرؤى بين الأطراف وتفاعل أنصارهم بحدّة عدوانية، ولا تنفتح لها النفوس المشدودة إلى حماستها وتعطشها لأي “نصر” رمزي. وقد يتصورّها البعض بمثابة مستطيلات بزوايا حادة، ويتخيلها البعض الآخر بمثابة مثلثات ذات زوايا أكثر ضيقا أو حدّة. بيد أن الانغماس العاطفي في نزعات التعصب بسبب ديمومة الصراع يجعل من الصعب التخلي عن أنساق أو بنيات تفكير معينة، وقبول عقلانية باردة محايدة!