صلاح الدين المساوي
بينما كنت جالسا في المسجد أنتظر الصلاة فإذا بي أسمع معلمة الأطفال داخل حجرتها التعليمية بالمركز الإسلامي تسأل تلامذها لماذا خلقنا الله…؟ شعرت بشيئ ما يستفز عقلي و يهز كياني و أنا أردد على لساني هذا سؤال وجداني فطري يطلبه كل إنسان سوي مؤمن،فرحت أتأمل في طبيعته ومدى وقعه على النفس التائهة الغافلة الجائرة التي آثرت الحياة الدنيا ورضيت بها و بملذاتها وشهواتها،ونسيت خلقها و خالقها الذي أوجدها من عدم،ودلّها على هويتها الأصيلة وتركيبتها الطبيعية كي لا تطغى ولا تعلو في الأرض، فخاطبها في شخص الانسان الذي يحوي هذه النفس وتتدفق بداخله قائلا:“فلينظر الانسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب” (الطارق/ 5).
هذا الإنسان العجيب في صنعه وطبيعته المستعصية فهمها، شكل لغزا حقيقيا على مدى التاريخ البشري،مفاده نختصره في سؤال جامع: ما حقيقة الانسان وما الغاية من خلقه؟ حول هذه الإشكالية الوجودية حاول الفلاسفة منذ القدم تحليلها ودراستها وإعمال النظر فيها، لكن دون جدوى،لأن عقل الإنسان محدود بطبعه مهما اجتهد وفعل،وأنه لن يصل إلى حقيقة مطلقة إلا بهداية الوحي،وهذا ما يشير إليه القرآن فيقوله تعالى” إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يوثَرُ، إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ “(المدثر/18,26).
هذا المفكر المقدِّر العابس الباسر إستند إلى عقله المحض، فانتهت به الحيلة إلى الإدبار والإعراض والاستكبار عن الحق…! وإلى يومنا هذا ظل العقل المجرد المادي في جحود تام وخصام دائم مع نوامس الكون،رغم النتائج المبهرة التي تقود بعض أصحابها(وقليل ماهم) إلى الإيمان بوجود الله المسير للكون والمتحكم في حركيته وسكونه.
لنرجع إلى سؤالنا الأساس…
إن هذا السؤال الجوهري أثار ذاكرتي بقوة، فأحببت أن أسهم في الاجابة عن بعض جوانبه من خلال عرض هادئ لآيات الله من القرآن العظيم،لنعطيه معنى شاملا واسعا يسع الانسان في حياته وآخرته، فمن فهم الغاية من وجوده عاش حياة طيبة و مات موقنا وبعث سعيدا.
لعل الجواب البسيط والمتداول، يعقله كل مسلم ومسلمة من خلال قوله تعالى “وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون”(الذاريات/56) أي” إلا ليعرفون ” كما قال حبر الأمة سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنه. فماذا يُفهم من قول الصحابي الجليل “ليعرفون”؟ أي ليفهموا عن الله لمّا أمرهم بالعبودية وهو في غير حاجة إليهم!! و لتفني عمرك كله أيها الإنسان في طلب “المعرفة بالله”، وأن تسخر كل أدواتك الحسية والمعنوية في مشروع البحث الكامل عن الحقيقة الكبرى “معرفة الله”:التي من أجلها بعث الأنبياء لدلالة الخلق على خالقهم…ثم ورث هذه” المعرفة” العلماء العاملون وبقيت سلسلة نورانية تتقد جمرتها من القلب إلى القلب….
إن السؤال عن كنه خلق الانسان والغاية منها،قد يفنى العمر كله دون الإحاطة به إحاطة شاملة سوية كاملة،وصدق الطبيب الفرنسي الباحث الرائد في قضايا الإنسان والحياة (ألكسي كاريل 1873-1944)،حينما أعيته الحيلة وكتب كتابا محاولة منه لفهم حقيقة الانسان تحت عنوان “الإنسان ذلك المجهول” !…وإن العقل المتحرر الناظر في كتاب الله يصل حتما إلى فهم ماهو معلوم من هذه “المعرفة النورانية ” بالضرورة، فيكتشف من معاني” إلا ليعبدون” في سياق “إلا ليعرفون” أسرارا و بداهات عجيبة….و منها على سبيل المثال لا الحصر:
– إلا ليعرفون الحق فيتبعوه و الباطل فيجتنبوه، ومن إهتدى لمعرفة الحق وتنزيهه عن الباطل فقد عاش سلطانا بين الناس، لأنه أدرك واقتنع فآمن واطمأن”ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم”(محمد/3)
-إلا ليعرفون الخير فيفعلوه والشر فينكروه: عادة ما يستدل العقل الدوابي بمقولة (نسبية الخير والشر)، فيحتج ويشتط بأن ما تراه خيرا قد يكون عند غيرك شرا، لكن بكل بساطة يمكن القول:أين وجد الصلاح ترى الخير وأين وجد الفساد إنتشر الشر.قال الحكيم سبحانه”ونبلوكم بالشر والخير فتنة” الأنبياء/35
-إلا ليعرفون الظلم فيحاربوه والعدل فيحكّموه، وإن المتمعن في الكون حوله يكتشف أن صيرورة الحياة قائمة على قانون العدل والظلم، وإن الدورة الحضارية تدور وفق هذه الخاصية المصيرية الحتمية في القضاء على الأمم وصعود أخرى ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا “( الشورى/40)
-إلا ليعرفون طريق العزة فيقتفوه و طريق الذل فيقطعوه، وليعلم الانسان المومن أن لا قيمة لطاعته وعبادته وخضوعه لربه إلا إن عاش حرا كريما عزيزا.ومن آثر الذل والهوان عند أسياده في الدنيا فلن تغني عنه عبادته شيئا،“إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا “[النساء:97].
-إلا ليعرفون نور الحب والجمال فيتخذونه دينا، و ظلام البغض و الكراهية فيلعنوه، “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” (البقرة/222)
-إلا ليعرفون رسول الهداية فيتبعوه في حكمته ومنهجه في فهم الغاية من الخلق وأسرار العبودية،”قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم” (آل عمران /31″)
إلا ليعرفون عظمة الخالق فيحبوه، فيمتثلون أمره في خضوع و سكون وخشوع يجعلهم يتمنون لقاءه بشوق وهمة عالية، و”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه…” كما جاء في الحديث الصحيح. وقال الله:”والذين آمنوا أشد حبا لله” (البقرة /256).
-إلا ليعرفون كرامة الإنسان التي جُبل عليها وأُمر بحفظها وتعظيمها، إذ لا معنى للإنسانية دونها،”ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا وفضلناهم تفضيلا” (الإسراء/70)
-إلا ليعرفون حقيقة الدنيا فيزهدون في مغرياتها، وقصد صدق الامام الشافعي في وصفها لما قال:
ومن يذق الدنيا فإني طَعمْتُها وسيق إلينا عَذْبُها وعذابها
فلم أرها إلا غُروراً وباطلاً كما لاح في ظهر الفلاة سَرابُها
وما هي إلا جِيفةٌ مستحيلةٌ عليها كلابٌ هَمُّهن اجتِذابها
فإن تجتنبها كنت سِلما لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنفسٍ أُودعت قعر دارها مُغَلَّقَةَ الأبوابِ مُرخىً حجابها.
وقال الحق:” واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيئ مقتدرا”(الكهف/45).
-إلا ليعرفون الدار الآخرة فيعملون لها وينتظرون جزاءها وثوابها “وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون”(العنكبوت/64).
-إلاليعرفون المقصد الشريف من اختلاف الأجناس والألوان والألسن، التي جعلها الله عنوانا ودلالة على صنعه المحكم وقدرته اللامتناهية ” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات13). أي لتعاونوا وتواصلوا وتشاركوا تشاركا حضاريا إنسانيا أخلاقيا.
وبهذا النزر القليل من التأمل في الغاية من خلق الإنسان نكون قد أشرفنا على تحديد بعض معاني العبودية والمعرفة بالله. ثم نختم بمقولة لربعي بن عامر رضي الله عنه، لتكون نبراس الانسان الواعد في هذا الكون،قال ربعي:” الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.”
إنها الغاية العظمى …وإنها الوظيفة المشرفة يا إنسان.!