Site icon أروى بريس – Aroapress – جريدة إلكترونية مستقلة تصدر من إسبانيا

صلاح الدين الموساوي يكتب الصيام والتغيير…الجزء (3) من سلسلة رمضان يحررنا

الصيام والتغيير…(3) |سلسلة رمضان يحررنا

بقلم: الأستاذ صلاح الدين الموساوي

رمضان يحررنا..

ماذا يريد منا رمضان؟(2) |سلسلة رمضان يحررنا

بمجرد عقد نية الصيام عند رؤية الهلال يكون الإنسان قد قرّر إبرام صفقة التغيير مع نفسه على مستوى السلوك الحسي والمعنوي، فهو الآن سيتنازل عن بعض عاداته وسلوكه الروتيني طوعا و كرها،كما سيترك الطعام والشراب وباقي الشهوات في نهار رمضان خوفا من فساد صومه و طمعا في رحمة ربه، و سيكلف نفسه عناء الطاعات ويستبق الخيرات يقينا منه أن الزمن ليس كباقي الأزمنة؛ و لأن العمل الصالح فيه مضاعف أضعافا كثيرة، والنافلة فيه تعدل الفريضة في غيره، ولأن المدد الروحاني والتيسير الرباني يتنزل بالليل والنهار. وبهذا الفعل الاعتقادي القلبي يدشن تجربة إرادية مشرقة في طليعة التغيير.

أ_الطهارة مفتاح التغيير:

سؤال: نتطهر من ماذا؟

في عرف الناس أن الطهارة تكون من النجاسة وما كان على شاكلتها، إذن أي نجاسة تبقى عالقة بالإنسان وقد إغتسل وتطيب ولبس الجديد وزاحم الناس بالركب في المساجد؟!! إنها نجاسة النفس يا إنسان (نجاسة معنوية )،فلطالما غالبتك وألبستك لباس الكبر والتأله على خلق الله ، وأطعمتك طعم الغرور والاستعلاء على الناس حبا في الظهور والاستجابة للأنانية الفرعونية ،حتى وقفت (النفس) حجابا مانعا بينك وبين ربك، وأغلقت عليك الباب بشهواتها وزينتها وحلتها الخادعة الكاذبة…!! فهاهو رمضان جاء ليطهرنا جميعا من هذه النجاسات الباطنة التي قلما يلتفت إليها الإنسان إلا من رحم ربك…والله عز وجل يخاطبنا في كتابه العزيز تصريحا وتلميحا “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس/9-10). وقال سبحانه ” إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد/11).

إنه لابد لنا من حظ التزكية الايمانية الاحسانية التي جاء رمضان لتثبيتها وتدريب الخلق على إحيائها والتحلي بخلالها، وإعلان التوبة والتضرع لرب العالمين مع الاعتراف بالذنب والتجرد والصدق في الطلب، عساه يتكرم ويرحم عبدا جاءه باكيا ذليلا ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة:

يتحدث عطاء بن أبي رباح أحد أشهر علماء التابعين رحمة الله عليه عن شكر واستغفار نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: دخلت انا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال لها عبيد بن عمير:

“حدثينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!”
فبكت عائشة رضي الله عنها ثم قالت:
“قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فقال:
“يا عائشة ذريني أتعبد لربي” قالت: فقلت:
“واللَّه اني لَأحب قربك وأُحِب ما يسرُّكَ”
قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره ثم بكى،  فلم يزل يبكي حتى بلّ الارض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال:
“يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟”
فقال صلى الله عليه وسلم:
“أفلا أكون عبداً شكوراً؟! لقد نزلت عليّ الليلة آيات،  ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”
وقرأ هذه الآية:

“إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” (آل عمران/190) (1).

ولقد بين حضرة مولانا جلال الدين الرومي الحالة الروحانية الضرورية لتحقق هذه التوبة حين قال: “تب بقلب مليء بنار الندامة وعيون رطبة! علماً أن الأزهار تنبت في الأماكن المشمسة والرطبة!”

و لأجل ذلك صاح الشاعر كاشفا بوحه :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة /فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ /فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ
أدعوك ربي كما أمرت تضرعا /فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرجا /وجميل عفوك ثم أني مسلمُ

ب_ الصيام جُنة وتحرير رقبة:

لقد نبه الشارع إلى عظمة الصيام وثقله الوازن في كفة العبادات، وبين أثره البالغ الذي يتركه في نفس الصائم وما يشعر به من سعادة وراحة وطمأنينة وفرحة عارمة تكاد تصل عنان السماء من شدة الإحساس بالتحرر المطلق من حبال الشهوة والعادة الجارفة. وإنه ليكاد يتشبه بالمخلوقات النورانية التي لا تعصي الله فيما أمرها، ولأجل ذلك أخفى الله أجر الصائم تحفيزا وتشويقا وإظهارا لقيمة الإخلاص المنطوية في هذه العبادة الخفية التي لا يطلع عليها أحد سوى الله، والتي ترفع صاحبها إلى درجة الصفاء والفناء في مقام “المحبوبية” حتى يصير عبدا لمولاه ويسعى إليه بالفرض والنفل حبا في جنابه وطمعا في رحمته، ولأنه يستحق الخضوع وإظهار الذلة والافتقار بين يديه .

ولما كان الصيام طريق الوصول إلى هذه المرتبة العلية في السلوك والمعرفة ، إستأثر به الله دون سائر العبادات ثوابا وجزاء لعباده المحسنين يوم العرض الأكبر كهدية منه سبحانه تفوق الخيال ،فقد أخبرنا البيان الإلهي مدويا في الحديث القدسي قائلا: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به،والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)” (2).

من خلال الحديث نلمس بوضوح أهمية الصيام في التغيير، وبسط سلطانه على النفس والمجتمع و دعوته للأمة بأن تحيا أمة فاضلة متحررة من شتى القيود والأوهام ، ولأجل هذا “جعل الصيام معادلًا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه: إذ جعل على من قتل مؤمنًا خطأ تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء : 92]. وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة : 4]. وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة : 196] فانظر لِمَ كتب الله على من ارتكب شيئًا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رقِّ الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رقِّ مطالب الحياة، ورقِّ ضرورات البدن، ورقِّ شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار. ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام ،لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقرُّ فيها ظلم؛ لأن للنفوس المسلمة بطشًا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله، ولا يملك رقَّها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما.” (3).

ويوم يحيط المومن بحقائق الصيام البالغة،حينها يذوق مقاصده ومعانيه الروحية الإيمانية كما عبر الشاعر الحريص على صلاح صومه وفلاح سعيه:

الصّومُ جُنَّةُ صائمٍ مِن مَأْثَمٍ / يَنْهى عن الفَحشاءوالأوشابِ. الصّومُ تَصفيدُ الغرائزِ جملةً/ وتحررٌ من رِبْقةٍ برقابِ
ما صّامَ مَنْ لم يَرْعَ حقَّ مجاورٍ /وأُخُوَّةٍ وقَرابةٍ وَصِحابِ
مَا صَامَ مَنْ أكَلَ اللحومَ بِغيبَةٍ/ أو قَالَ شراً أو سَعَى لِخرابِ ما صَامَ مَنْ أدّى شَهادةَ كاذِبٍ/ وَأَخَلَّ بالأََخْلاقِ والآدابِ
الصَومُ مدرسةُ التعفُّف والتُّقى/ وَتَقارُبِ البُعَداءِ والأغرابِ الصّومُ َرابِطَةُ الإخاءِ قوِيّةً/ وَحِبالُ وُدِّ الأهْلِ والأَصْحابِ الصّومُ دَرسٌ في التّساوي حافِلٌ/ بالجودِ والإيثارِ والتَّرحابِ شهرُ العَزيمةِ والتَصبُّرِ والإبا/ وصفاءِ روحٍ واحتمالِ صعابِ
كَمْ مِنْ صيامٍ ما جَنَى أصَحابُه/ غيرَ الظَّمأ وَالجوعِ والأتْعابِ ما كلُّ مَنْ تَرَك الطّعامَ بصائمٍ /وَكذاك تاركُ شَهْوةٍ وشراب.

يتبع…
_________________
(1):أخرجه ابن حبان واللفظ له.
(2):الحديث كما رواه البخاري ومسلم.

(3):محمود شاكر ، جمهر مقالات ص 938 .