عدنان مخلص
من يتأمل واقعنا اليوم يكتشف أن أكبر معركة نخوضها ليست في دورات المجالس الجماعية ولا في جلسات مجلسي البرلمان، لأن الغالبية جيلا بعد جيل لم تعد تلتفت لما يقع هناك وكأن الأمر لا يعنيها، رغم أن كل شيء يقع هناك. إن هذا الانفصال بين المواطن ومؤسساته المنتخبة يعكس أزمة ثقة عميقة، حيث تحولت قاعات القرار إلى فضاءات مغلقة لا تصل أصواتها إلى الشارع، ولا يشعر الناس أن ما يناقش فيها يلامس حياتهم اليومية أو يغير واقعهم.
المفارقة أن البرلمان والمجالس الجماعية هي قلب العملية الديمقراطية، وهي التي تشرع القوانين وتحدد السياسات وتوزع الموارد، لكن حين يغيب الإحساس بالجدوى، يصبح المواطن متفرجا لا شريكا، ويترك القرار في يد قلة لا تحاسب إلا شكليا. هذا الانفصال يفتح الباب أمام خطاب التيئيس، ويجعل الناس يعتقدون أن المؤسسات مجرد واجهة، بينما الحقيقة أن كل ما يمس حياتهم اليومية من تعليم وصحة وشغل وطرق وماء وكهرباء يقرر هناك.
لهذا فنحن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نعيد بناء الثقة في مؤسساتنا ونمنحها القدرة على الاستمرار، أو أن نسمح لخطاب التيئيس أن يتغلغل في النفوس ويقودنا جميعا إلى هاوية لا عودة منها.فالمؤسسات ليست مجرد بنايات أو هياكل إدارية، بل هي أعمدة الوطن التي تضمن تماسكه واستمراره، وإذا انهارت انهار معها كل شيء.
والمعركة الحقيقية إذن ليست في إلغاء هذه المؤسسات أو التشكيك فيها، بل في إعادة ربطها بالمجتمع، وإعادة الاعتبار لدورها عبر إنفتاحها بشكل كامل لتكون محطة إهتمام ومراقبة الجميع ، ليكون نقد القائمين عليها ومحاسبتهم هو الأساس لتجويدها، لا عبر جلد المؤسسة نفسها. فالمؤسسة هي الإطار الذي يضمن الاستمرارية، أما الأشخاص فهم عابرون. إذا صلحوا صلحت المؤسسة، وإذا أساؤوا وجب إصلاحهم أو استبدالهم، لكن دون أن نهدم البيت الذي يجمعنا جميعا.
إن المطلوب اليوم هو أن نعيد للناس الثقة في أن أصواتهم قادرة على التغيير، وأن ما يناقش في البرلمان والمجالس الجماعية ليس بعيدا عنهم، بل هو الذي يحدد تفاصيل حياتهم اليومية. حين يدرك المواطن أن المؤسسة تعمل لأجله، وحين يرى نتائج ملموسة لقراراتها، سيعود إليها، وسينخرط في مراقبتها ومحاسبتها، بدل أن يتركها تتحول إلى مسرح مغلق لا جمهور له. فالمؤسسة ليست خصما في معركة سياسية أو اجتماعية، وليست شخصا يمكن أن نكيل له الاتهامات أو نصفي معه الحسابات. إنها إطار جامع يضمن التوازن ويؤمن الاستمرارية، أما القائمون عليها فهم بشر يخطئون ويصيبون، وقد يحولونها أحيانا إلى مجرد ماريونيت فاقدة للروح. لكن العلاج لا يكون بجلد المؤسسة نفسها، بل بمحاسبة من أساء إليها وإعادة الاعتبار لها ككيان يعلو فوق الأشخاص ويستمد شرعيته من المجتمع.
خطاب التيئيس الذي يشيع بين الناس هو أشبه بسم بطيء يتسرب إلى جسد المجتمع، يزرع الشك في النفوس ويضعف الشرعية ويخلق فجوة بين المواطن ومؤسساته. إنه خطاب يفتح الباب أمام الفوضى ويجعلنا جميعا أسرى الإحباط بدل أن نكون شركاء في الإصلاح. إن أخطر ما في هذا الخطاب أنه يقتل الأمل ويجعل الناس ينظرون إلى مؤسساتهم كعائق بدل أن يروها كأداة للتغيير.
النقد الحقيقي ليس هدما بل بناء، هو مساءلة المسؤولين لا المؤسسات، وهو دعوة إلى الشفافية لا إلى القطيعة، وهو إحياء للأمل لا إشاعة لليأس. حين ننتقد الأداء ونقترح البدائل فإننا نعيد للمؤسسة قوتها ونمنحها شرعية جديدة قائمة على الثقة والمحاسبة. النقد البناء هو الذي يفتح الباب أمام الإصلاح، ويمنح المواطن إحساسا بأنه جزء من الحل لا مجرد متفرج على الأزمة.
المطلوب اليوم هو خطاب جديد يوازن بين الصراحة والإنصاف وبين النقد والإصلاح، خطاب يرى في المؤسسات جسدا حيا يحتاج إلى العناية لا إلى الهدم، جسدا يمكن أن يمرض بعض أعضائه لكن علاجه يكون باستبدال العضو المريض لا بقتل الجسد كله. نحن بحاجة إلى أن نعيد تعريف علاقتنا بالمؤسسات، أن نراها بيتا مشتركا لا ساحة صراع، وأن ندرك أن قوتها من قوتنا وضعفها من ضعفنا.
إن معركة المستقبل ليست بين مؤسسة وأخرى، بل بين خطاب التيئيس وخطاب الأمل، بين من يريد أن يجرنا إلى الهاوية ومن يسعى إلى إعادة الاعتبار للمؤسسات عبر النقد البناء والمحاسبة. فلتكن كلماتنا جسرا نحو الإصلاح لا معولا للهدم، ولنجعل من النقد قوة تعيد الثقة لا سلاحا يزرع الشك. فالمؤسسات هي بيتنا المشترك، وإذا هدمناه فلن نجد سقفا يحمينا جميعا.
بهذا المعنى، يصبح الرهان الحقيقي ليس فقط على من يدير المؤسسات، بل على الخطاب الذي نصنعه حولها. فالكلمة قد تهدم أكثر مما يهدم الفعل، وقد تبني أكثر مما يبني القرار. نحن أمام مسؤولية جماعية: أن نصوغ خطابا يزرع الأمل، يحاسب المسؤول، ويعيد الاعتبار للمؤسسة، لأن مستقبلنا مرهون بقدرتنا على حماية بيتنا المشترك من سم التيئيس ومن معاول الهدم.
إن المغرب مقبل على اختبار حقيقي خلال المرحلة القادمة، وبالضبط في الانتخابات التشريعية المقبلة، حيث ستتجه الأنظار إلى مدى قدرة مؤسساته على تجديد الثقة وإقناع المواطن بأن المشاركة ليست عبثا بل رهانا مصيريا. هذا الاختبار لا ينفصل عن السياق الدولي، فقرار مجلس الأمن الأخير رقم 2797 وضع النقاط على الحروف حين أكد أن حل نزاع الصحراء أصبح قائما على أساس واحد وهو الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية. وحينما يتضمن القرار كلمة “حقيقي”، فهذا بيت القصيد: فالمجتمع الدولي ينتظر من المغرب أن يُجسد هذا “الحقيقي” في مؤسساته، في ديمقراطيته، وفي قدرته على جعل الحكم الذاتي نموذجا ناجحا للتدبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إن الانتخابات القادمة لن تكون مجرد محطة داخلية، بل امتحانا أمام العالم لإثبات أن المغرب قادر على أن يجعل من مؤسساته رافعة للأمل لا ساحة للتيئيس، وأنه مؤهل لترجمة الشرعية الدولية إلى واقع ملموس يكرس السيادة ويعزز الوحدة الوطنية. هنا يصبح النقد البناء واجبا، والمشاركة مسؤولية، والخطاب الإيجابي ضرورة، لأننا أمام لحظة فارقة ستحدد ملامح المستقبل لعقود قادمة.
