بقلم : البراق شادي عبد السلام
فصل جديد من المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية في الشرق الأوسط تكتبه المقاتلات الجوية الإسرائيلية فوق سماء اليمن، بعد شهور طويلة من الصمت الإستراتيجي الإسرائيلي تجاه التصعيد الحوثي ضد أهداف في إسرائيل؛ حكومة الحرب في تل أبيب تقرر أخيرا الانتقال إلى إستراتيجية إقليمية جديدة تستهدف تقليم أظافر إيران الإقليمية عن طريق توجيه ضربة عسكرية جوية مباشرة هي الأولى من نوعها في عمق اليمن، وبالتحديد ميناء الحديدة الذي يشكل العمق الإستراتيجي لميليشيا الحوثي. اليوم نحن أمام مشهد جيوسياسي جديد في منطقة تستدعي الكثير من الحذر لأنها تحولت إلى برميل بارود انفجاره قد يهدد الأمن الإقليمي والعالمي، بالنظر إلى الموقع الإستراتيجي لمضيق باب المندب وأهميته الكبرى في خطوط الملاحة الدولية وطبيعة القوى والمحاور المتدخلة في تأمينه.
الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة لم يكن ردة فعل انفعالية كما يبدو لأنه جاء يوما واحدا بعد القصف غير المسبوق الذي نفذه الحوثيون على تل أبيب بل، هو قرار إستراتيجي وراءه رسائل ردع متعددة وجهتها تل أبيب إلى المحيط الإقليمي منذ بداية المواجهة الجيوسياسية مع إيران وأدواتها الإقليمية بعد السابع من أكتوبر 2023 بتوجيه ضربة وقائية ضد أهداف مدنية، لكن ذات قيمة إستراتيجية من خلال تعطيل البنية التحتية والمنشآت الحيوية لأهم منفذ خارجي لجماعة الحوثي، مع قرار إسرائيلي بعدم التصعيد، والدليل هنا هو عدم استهداف إسرائيل لقيادات الصف الأول السياسية والعسكرية في جماعة أنصارالله كما يقع في الجبهة الشمالية مع لبنان، حيث قامت إسرائيل بتحييد أكثر من 340 عنصرا ينتمون إلى حزب الله بينهم أكثر من 20 قياديا بارزا، أو استهداف مواقع عسكرية تابعة للحوثي كالمستودعات الإستراتيجية للصواريخ في إب وذمار وصنعاء وعمران وصعدة والمعسكرات الموجودة في مدينة رداع عاصمة البيضاء حيث تتواجد مستودعات تكتيكية وإستراتيجية للصواريخ البالستية والبحرية أو مراكز الإطلاق التكتيكية في كل من مرتفعات مكيراس بمحافظة البيضاء ومدينة الحزم عاصمة منطقة الجوف، بل كان من الممكن استهداف مراكز الإطلاق حول مدينة الحديدة كالصليف ورأس عيسى واللحية وجزيرة كمران حيث تنطلق منها صواريخ ومسيّرات تستهدف ميناء إيلات جنوب إسرائيل.
بالعودة إلى الأهمية الإستراتيجية لميناء الحديدة فالمعلوم أن أكثر من 70 في المئة من المساعدات الإنسانية الموجهة إلى اليمن تدخل عبر هذا الميناء الحيوي، كما أن المواد الأولية المهرّبة المستخدمة في تطوير وترقية وتصنيع أسلحة الردع الإستراتيجي الحوثية من مسيّرات إستراتيجية وصواريخ بالستية تمر عبر هذا الميناء، هذا بالإضافة إلى المداخيل المالية للميناء التي تساهم بشكل كبير في دعم ميزانية الحرب لحكومة ميليشيا أنصارالله.
بالعودة إلى الضربة الجوية الإسرائيلية وحسب تقارير قامت قوة جوية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي تتكون من عشرين طائرة حربية بينها مقاتلات السيادة الجوية طراز إف – 15 وطائرات مهام التفوق الجوي والهجوم الشبحي إف – 35، وطائرات مقاتلة متعددة المهام طراز إف – 16، بالإضافة إلى 4 طائرات للتموين جوا غالبا ستكون بوينغ 707 عسكرية الطراز، بالإضافة إلى مروحيات تقوم بمهام الخفر الجوي استطاعت قطع مسافة تقارب 2000 كيلومتر انطلاقا من قواعد جوية في صحراء النقب جنوب إسرائيل متجهة إلى الساحل الغربي لليمن من أجل تنفيذ عمليات استهداف دقيقة كبدت ميليشيا الحوثي خسائر مادية كبيرة ستؤثر بشكل كبير على الحياة الاقتصادية في البلاد التي تعاني من أوضاع اجتماعية مزرية نتيجة الحرب الأهلية التي تمزق البلد منذ بداية التدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية لليمن.
الدروس المستفادة من معركة الحديدة بين الحوثيين والتحالف العربي في 2018 والتي كادت تتسبب في كارثة إنسانية نتيجة تعطيل الحوثي للميناء وعرقلة وصول المساعدات إلى الشعب اليمني الأصيل الذي عانى ويعاني من ويلات حرب وكالة تخوضها جماعة وضعت قرارها السياسي في خدمة أجندات نظام الولي الفقيه في طهران، حيث أن تداعيات الهجوم الإسرائيلي تدق ناقوس خطر حقيقي حول وضع الشعب اليمني في مستقبل الأيام، وبالتالي سيؤثر بشكل كبير على طبيعة الرد العسكري الحوثي المقبل وشكله وحجمه على الضربة الجوية الإسرائيلية.
كل المؤشرات تؤكد حقيقة واحدة أن ميليشيا الحوثي مكلّفة بمهمة التطويق الإستراتيجي لإسرائيل وخنقها اقتصاديا من خلال التضييق على حركة الأسطول التجاري الإسرائيلي وعرقلة المبادلات التجارية لإسرائيل مع العالم عن طريق ميناء إيلات بإقامة حظر بحري في البحر الأحمر ومضيق باب المندب على السفن الإسرائيلية أو المشتبه تعاملها مع شركات إسرائيلية، حيث أن ميناء إيلات تكبد في الشهور الأخيرة خسائر مادية فادحة مما يجعل من المواجهة الإسرائيلية – الحوثية في البحر الأحمر مسألة حتمية رغم الجهود الأميركية والإقليمية لوقف الانزلاق الخطير في الموقف العسكري والسياسي في الشرق الأوسط لكي لا تندلع حرب إقليمية شاملة ومدمرة في سنة انتخابية مصيرية في واشنطن .
عمليا رد جماعة أنصارالله المنتظر لن يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في إطار قواعد اشتباك إقليمية تقليدية متوافق عليها بين جميع الأطراف، فالحوثي في اليمن لا يمتلك القرار السيادي الوطني لتحريك ترسانته من الصواريخ البالستية والمسيّرات الإستراتيجية لاستهداف العمق الإسرائيلي إلا بموافقة من غرفة العمليات المركزية للحرس الثوري في طهران وإسناد من باقي أدوات إيران في المنطقة، فتصعيد الموقف العسكري في مضيق باب المندب الذي يشكل خاصرة الملاحة الدولية وضع لا تتفق عليه أغلب القوى الإقليمية الفاعلة، وتحويل البحر الأحمر إلى أحد مسارح المواجهة بين إيران وإسرائيل أمر يقلق الخاسر الأكبر في الموضوع وهو جمهورية مصر العربية التي تتكبد قناة السويس خسائر مليارية من تعطل وعرقلة وتناقص الملاحة التجارية في القناة.
من الناحية الجيوسياسية يبدو أن إيران تنظر إلى الصراع العسكري مع خصومها من منظور إستراتيجي أوسع، فبدلاً من التركيز على المواجهات العسكرية المباشرة تركز إيران على المكاسب والخسائر الإستراتيجية الكلية لكل طرف. في هذا السياق يمكن اعتبار قصف أهداف مدنية ذات قيمة إستراتيجية في ميناء الحديدة في اليمن جزءًا من “لعبة الردع والاستكشاف” الجارية بين إيران وخصومها في القطاع العملياتي للبحر الأحمر، فهذه الهجمات قد لا تؤدي بالضرورة إلى تصعيد عسكري كبير بل قد تكون جزءًا من محاولات الأطراف المتنافسة لاختبار القدرات وحدود المواجهة الشاملة.
من منظور إيراني، قد تكون هذه الخسائر المادية مقبولة إذا كانت تساهم في تحقيق أهداف إستراتيجية أوسع مثل تسريع وتيرة الدعم اللوجيستي لخطوط الإمداد إلى الحلفاء الإقليميين في سوريا ولبنان واليمن والعراق من أجل تعزيز قدراتهم القتالية والعسكرية، فالهدف الإستراتيجي الأكبر لإيران قد يكون تعزيز نفوذها الإقليمي وضمان استمرار دعمها للميليشيات التابعة لها في المنطقة في ظل مرحلة انتقالية خطيرة للسلطة يمر منها نظام الولي الفقيه، حيث أن الوضع الجيوسياسي للصراع بين إيران و إسرائيل يتطلب نظرة شاملة إلى الأهداف الإستراتيجية والحسابات التكتيكية والمالية لكل طرف، بدلاً من التركيز فقط على المواجهات العسكرية المباشرة.
من وجهة نظر إسرائيلية، يمكن القول إن القصف الجوي لميناء الحديدة في البحر الأحمر يأتي في إطار الجهود الإسرائيلية المستمرة لردع إيران وحلفائها والحد من قدراتها العسكرية، لاسيما في ما يتعلق بنقل الأسلحة والمعدات إلى الميليشيات المعادية لإسرائيل، حيث أن حكومة الحرب في تل أبيب تنظر إلى إيران باعتبارها تهديدًا وجوديًا لها، نظرًا إلى دعمها اللامحدود للميليشيات المسلحة في المنطقة، وعدم وضوح الرؤية بالنسبة إلى البرنامج الصاروخي الإيراني، خاصة بعد استهداف العمق الإسرائيلي بمسيّرة حوثية، وبالتالي فالمواجهة اليوم ضرورية لحماية أمنها القومي والحد من قدرات أدوات إيران العسكرية، كما أن حسابات الداخل الإسرائيلي ترخي بظلالها على طبيعة المواجهة المقبلة مع الحوثيين في اليمن، وبنيامين نتنياهو في ظل تعثر مفاوضات إطلاق الرهائن والعجز الإقليمي عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار دائم هو في حاجة إلى تقديم انتصار إقليمي جديد في تل أبيب.
نتفق جميعا أن الصراع في الشرق الأوسط بأبعاده الإستراتيجية والسياسية له أبعاد إقليمية ودولية معقدة، وأن نظام الولي الفقيه من خلال مخططه التوسعي يلعب دورا محوريًا في تعميق هذا الصراع وتحويله إلى مواجهة بالوكالة مع إسرائيل كما أن الحرب الأخيرة في غزة والفظائع التي ارتكبتها الآلة العسكرية الإسرائيلية في حق المدنيين بقطاع غزة قد أدت إلى تصاعد الخطاب العدائي بين إسرائيل والكثير من الشعوب العربية، مما يؤكد الحاجة اليوم إلى صياغة سياسات إسرائيلية جديدة أكثر تفاعلا مع الوضع الإقليمي وللآثار الإستراتيجية والسياسية لقراراتها على المنطقة ككل، لأن تحقيق السلام والتعايش بين إسرائيل وجيرانها العرب وإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة بعاصمتها القدس، هو الحل الأمثل لإنهاء هذا الصراع المستمر منذ عقود من خلال إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف المعنية وتنازلات متبادلة لتسوية القضايا الجوهرية العالقة.