حين يثق المواطن في “المسؤول الحقيقي” في مشهد يختزل كل شيء، خلال صلاة عيد الأضحى ، اقترب مواطن بسيط بخطى مترددة من السيد عبد الحميد المزيد، ومدّ إليه رسالة مكتوبة بخط اليد، خبأها في جيبه كأنها سرّ من أسرار القلب، وتجاوز بها كل الحواجز، متجاهلًا المسؤولين الذين كانوا يحيطون بالعامل. لم يسلّمها لأيٍّ منهم، بل وجّهها إليه مباشرة، لأنه، ببساطة، رآه رجل دولة لا موظفًا ساميًا فقط.
ذلك المواطن لم يكن يملك وسيلة ضغط ولا نفوذًا ولا حتى لغة مُنمّقة، لكنه رأى في السيد المزيد وجهًا مألوفًا، لا يتجمّل أمام الكاميرات ولا يهرب من الناس. رفض أن يسلّم الرسالة للذين بجانبه، لأنهم في نظره، رموز للصمت الإداري والبيروقراطية الباردة، بينما المزيد هو الوحيد الذي منح لكلامه وزنًا قبل أن يُنطق.
هذا المشهد، رغم بساطته، ينسف كل الخطب والشعارات عن “القرب من المواطن”، ويضع الأصبع على الحقيقة: الناس لا يثقون إلا في من يصغون إليهم، لا في من يجلسون بجانب العمال والولاة لملء الكراسي فقط.
في زمن تحوّلت فيه بعض الكراسي الإدارية إلى قلاع إسمنتية مغلقة، وقاعات الاجتماعات إلى مسارح للوعود المؤجلة، يخرج من مشهد التكرار الإداري اسمٌ استثنائي يربك المألوف ويعيد تعريف السلطة كما يجب أن تكون: عبد الحميد المزيد، عامل إقليم القنيطرة.
هذا الرجل لا يكتفي بتطبيق “المفهوم الجديد للسلطة”، بل يكاد يكون أحد قلائل من يجسّدونه دون زيف، من يحيونه على الأرض لا في البلاغات، من يمارسونه لا يتغنون به. لقد اختار أن يكون مسؤولًا ميدانيًا، لا موظفًا بربطة عنق. مسؤولًا حاضرًا في الشارع، في الدوار، في الورش، لا في نشرات الأخبار.
مقطعٌ عفوي، التُقط دون تنميق أو ترتيب، أظهره واقفًا بين الناس، منصتًا لهم، متحدثًا إليهم، وموجّهًا بطمأنينة الواثق الذي لا يحتاج إلى خشبة ولا جمهور ليكون مؤثرًا. لا حاجة للبهرجة حين تكون الحقيقة صافية. فالمزيد لا “يمثّل” دور المسؤول، بل يعيش مسؤوليته كقَسَم أخلاقي لا كعقد إداري.
منذ أن تسلّم قيادة إقليم القنيطرة، لم يُطلق وعودًا، بل أطلق دينامية. لم يسعَ إلى صناعة الصورة، بل انشغل بصناعة الأثر. ولهذا احترمه المنتخبون، واحتضنه المجتمع المدني، وقدّره المواطنون، لأنهم رأوا فيه مسؤولًا ينزل من برجه العاجي دون خوف من الغبار ولا رهبة من الأسئلة.
ولعلّ المفارقة المؤلمة هي أن حضوره يُحرج الغياب، وصمته يُدين الصخب، وميدانيته تفضح أولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن السلطة تُمارَس من خلف المكاتب، وأن “الحكامة” تُصاغ داخل تقارير لا تغادر الرفوف.
فكم من مسؤولٍ لم يُرَ منذ شهور؟ وكم من عامل لا يزال يعتقد أن حرارة الهاتف تعوّض حرارة الشارع؟ وكم من مدير لا يعرف عن مديريته سوى ما يصله من بريد إلكتروني؟ هؤلاء لا يزعجهم النقد لأنهم في عزلة عن ضجيج الناس، لا يربكهم السؤال لأنهم لا يسمعونه، ولا يخشون المحاسبة لأنهم ببساطة… غائبون.
أما عبد الحميد المزيد، فهو هناك، في قلب المواطن لا على هامشه، في أرض الواقع لا فوقها. يشتغل بلا شعارات، ويتنقل بلا أضواء، ويترك في كل مكان بصمة رجلٍ يرى في المسؤولية تكليفًا لا تشريفًا.
فهل من مزيد… على خُطى المزيد؟
إن أمثال هذا الرجل لا يُدرَّسون في معاهد الإدارة، بل يُستشهد بتجربتهم في الميدان. وهم لا يطلبون المجد، لأن أثرهم يكفي. التاريخ لا يكتب أسماء من جلسوا في مكاتبهم ينتظرون الساعة، بل من وقفوا في وجه العزلة الإدارية وقالوا: أنا هنا، بين الناس، من أجل الناس.