الدكتور أحمد الفراك
مقدمة
تحتفظ إسبانيا بموقف مُشرف من القضية الفلسطينية، لا تضاهيها فيه دولة أخرى لحد الساعة، وستتذكر الأجيال مستقبلا هذا النُّبل الأخلاقيبالفخر والاعتزاز، فهي التي لم تساوم على مبادئها ولم تخن العهد الأخلاقي في الانتصار للإنسانية والقيم النبيلة، ولم تخضع للضغوط الامبريالية الخطيرة التي زيفت الوعي الإنساني، وقلبت الحقائق بخصوص الوضع في فلسطين المحتلة، وطمست عقودا من الاضطهاد والتنكيل والتقتيل التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
وفي هذا الإطار اتسم الموقف الإسباني من أحداث غزة (2023-2025) بالوضوح والشجاعة منذ أول وهلة، ومما زاد من قوة هذا الموقف انسجام الموقف الشعبي الداخلي مع الموقف السياسي، مقارنة بعدد من الدول الأوروبية التي سقطت في الامتحان، حيث اتجهت إسبانيا لتبني مواقف رسمية وشعبية داعمة بشكل صريح للفلسطينيين، وناقدة بقوة للسياسات الإسرائيلية الأخيرة، خاصة فيما يعدّه الإسبان وأغلب الرأي العام ومؤسسات الدولة لديها “حرب إبادة جماعية” ضد سكان قطاع غزة.
الموقف الإسباني من النقد إلى الإدانة
شهدت السياسة الخارجية الإسبانية تدرجا في موقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة، ابتداء من أكتوبر 2023 إلى لحظة وقف إطلاق النار خلال أكتوبر 2025. 2024 حيث انتقلت من إدانة العنف ورفض الحرب، إلى اتخاذ إجراءات دبلوماسية ضاغطة والاعتراف العلني بدولة فلسطين (مايو 2024)، مثال ذلك القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء الإسباني في شتنبر2025، والمتعلق بفرض الحظر على تصدير السلاح لإسرائيل مع دعم التحقيقات الدولية في جرائم الحرب، ومصادقة البرلمان في أكتوبر 2025 على قانون يحظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل لتقوية الضغط الدولي على إسرائيل من أجل إيقاف الإبادة. بالإضافة إلى تنديدها المستمر بالانتهاكات الجسيمة في حق الفلسطينيين، ومنع دخول شخصيات إسرائيلية ضالعة في الحرب إلى الأراضي الإسبانية.
تعاطف إنساني وإجراءات ملموسة
ما أن توغلت إسرائيل في دماء الشعب الفلسطيني في غزة، حتى علّقت إسبانيا جميع الصادرات العسكرية إلى إسرائيل (أكتوبر 2023)، تلتهاإجراءات عملية على رأسها إلغاء عقود شراء ذخائر إسرائيلية رسميًا في 2025. كما أرسلت الحكومة فرقاطة بحرية لمرافقة أسطول دولي بهدف كسر الحصار البحري وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، كما استدعت القائم بالأعمال الإسرائيلي لديها احتجاجًا على اعتراض البحرية الإسرائيلية لسفن الإغاثة واحتجاز مواطنين إسبان. وإلغاء فعالية المرحلة النهائية لسباق الدراجات الشهير في إسبانيا، ووقف استضافة فعاليات تشارك فيها إسرائيل، وانتصارا للشرعية الدولية “رفعت الحكومة الإسبانية قضايا أمام محكمة الجنايات والعدل الدولية، ونددت علنًا بجرائم الاحتلال أمام المحافل الدولية، ورفضت مشاركة إسرائيل في بعض المنتديات الدولية والفنية”.
الحكومة والبرلمان
كانت الحكومة الإسبانية على موعد مع التاريخ منذ بداية الحرب على غزة، حيث دعت بصوت مرتفع إلى وقف فوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية وإنهاء الحصار على غزة، واعتبرت ما يحدث انتهاكًا يوميًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان، حيث شدد رئيس الوزراء بيدرو سانشيز على ضرورة إيقاف العدوان ومحاسبة الأشخاص المتورطين في الإبادة الجماعية في غزة، وعدم السماح أخلاقيا وقانونيا بالإفلات من العقاب تحت أي مبرر، ومهما كانت قوة الدول والتكتلات التي تقف خلفه.
وطالبت إسبانيا الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف حازم من هذه الحرب القذرة، وتعليق اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل ردًا على تماديها في استعمال العنف المفرط والأعمى في القطاع.
الشعب الإسباني
ظهر من خلال تفاعله مع أحدث غزة الأخيرة، أن الشعب الإسباني عموما لم يخضع للدعاية الكاذبة التي روجت دوائر حليفة إسرائيل وخادمة لسياسة أمريكا في المنطقة، وذلك لأن يعرف -من خلال تجاربه ووعيه الجمعي- خلفيات هذه الحرب وآثارها المدمرة على الإنسانية، فخرجت مسيرات ضخمة في مختلف المدن الإسبانية تنديدا بالإجرام الصهيوني في حق الفلسطينيين، بالإضافة إلى مسيرات الطلاب في الجامعات، ووقفات التلاميذ في المدارس، وأنشطة مكثفة من طرف كثير من التنظيمات النقابية والحزبية، ناهيك عن مختلف الأشكال التضامنية الفنية والرمزية التي ملأت فضاءات ثقافية وفكرية على طول الخريطة الإسبانية، بل بلغ إشعاعها إلى العالم، مما يدل على عمق الروح التضامنية والتعاطف الإنساني عندالشعب الإسباني، ولعل المتتبع للإعلام الإسباني سيكتشف حجم وطبيعة التعاطي مع الشعوب المضطهدة في العالم، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
وأخيرا، استطاعت إسبانيا أن تُسجل موقفا إنسانيا متميزا داخل أوربا وخارجها من أحداث غزة (2023-2025)، وأن تتخذ إجراءات عملية شجاعة تعبر عن وفائها للقيم الأخلاقية المشتركة، واحترامها لمبادئ الشرعية الدولية، وقد تحملت في سبيل هذا الموقف تبعات قوى الشر الكبرى التي لا تراعي قيما ولا فضائل في دعمها للحرب والعنف والدمار. لكنها رغم ذلك أثبت للعالم بأنها مستقلة في قرارها ولا تقبل المساومة على مبادئها مهما كان حجم الإغراء.
ولهذا يجب أن لا ننسى موقف إسبانيا من حرب الإبادة في فلسطين.

