ما لا يدركه كثيرون ممن يُمارسون النقد من خارج أسوار المسؤولية، هو أن الدولة لا تُدار بالعواطف، ولا تُبنى بتقديرات فردية. بل هناك ما يُسمى في العلوم السياسية والإدارية بـ”منطق الدولة”، حيث تتجاوز القرارات بعدها الظرفي، وتُصبح مرتبطة بإعادة الاعتبار للمؤسسات، وضبط العلاقة بين المواطن والمرفق العمومي.
ما وقع مؤخرًا في مدينة إفران لا يمكن قراءته فقط من زاوية تحرير الأرصفة، بل هو إعادة تموضع لسلطة الدولة في فضاء ظل لسنوات رهينة تفاهمات غير رسمية، وتنازلات ميدانية فرضتها علاقات الزبونية أو منطق “غض الطرف”.
وفي قلب هذا التحول، برز دور السلطة المحلية باعتبارها الامتداد الترابي للدولة، ومُمثلة لبنية مؤسساتية تشتغل بمنطق البيروقراطية الإيجابية، أي ذاك النمط من التدبير الإداري الذي يتجاوز الحسابات الآنية، ويُعيد الاعتبار للقانون كمرجعية وحيدة لتنظيم الفضاء العام، وصيانة المرفق العمومي من كل أشكال الفوضى والامتياز.
لقد اختارت السلطة المحلية أن تُعيد ضبط العلاقة بين المجال والقرار العمومي، من خلال فرض احترام القانون دون انتقائية، وتحصين التدبير من محاولات الابتزاز أو الضغط.
لكن ما يُثير التقدير حقًا، هو أن هذا القرار الصارم لم يواجه فقط مقاومة، بل قوبل أيضًا بتفهم كبير من شرائح واسعة من التجار، وأرباب المحلات، وحتى بعض مهنيي قطاع المقاهي، الذين تفاعلوا مع الإجراءات بنضج ومسؤولية.
لم يلجؤوا إلى حملات تشهيرية، ولم يتوسلوا للمنابر المأجورة. بل اختاروا منطق الدولة، واعتبروا أن استعادة النظام في الفضاء العمومي يصب في مصلحتهم قبل غيرهم.
فكيف لأرباب محلات بسيطة أن يستوعبوا مغزى القرار، في حين اختار آخرون طريق الصدام والتجييش؟
ولماذا يرفض البعض منطق القانون حين يُهدد امتيازًا غير مشروع؟
وهل أصبحت الضوضاء بديلاً عن المؤسسات؟
هؤلاء المواطنون الذين احترموا القانون بصمت، وفهموا الرسالة دون وساطة، يستحقون كل التقدير. فقد كانوا شركاء حقيقيين في إنجاح القرار، وأثبتوا أن الدولة لا تقف دائمًا في مواجهة المواطن، بل تقف إلى جانبه حين يُحترم القانون ويُستعاد الحق العام.
كما لم تنفع، في هذه المرحلة، الضغوط الإعلامية الموجهة، ولا الحملات الافتراضية التي شنّها بعض “سماسرة الإعلام”، ممن يحترفون “تاسمسارت” من خلال تصوير مظلومية وهمية، فقط لإعادة فرض واقع غير قانوني.
كل هذه الأساليب قوبلت بـبرودة بيروقراطية صارمة، تردّ بلغة الإجراءات لا بلغة البيانات.
وهنا يكمن الفرق بين سلطة محلية تُدير ظرفًا، وسلطة تُؤسس لتحول مؤسساتي.
فالاشتغال الذي يتم اليوم في إفران يُعيد الاعتبار لـهيبة المرفق العام، ويُذكّر أن الإدارة ليست وسيطًا لتوزيع الرضى، بل جهاز مؤسساتي يُنظّم العلاقة بين المواطن والحق العام، دون وساطات ولا امتيازات.
ليس المطلوب أن نُصفّق، ولا أن نُجمّل. المطلوب فقط أن نفهم أن منطق الدولة لا يخضع لمزاج الأشخاص، ولا لرغبة أصحاب الامتيازات، ولا لضغط منابر مأجورة.
وأن هيبة الإدارة تبدأ حين يُصبح القانون هو المرجع الوحيد.
وفي إفران، يبدو أن هناك من قرر أخيرًا أن يُعيد ترتيب الأولويات بمنطق الدولة لا بمنطق الخضوع.
ولمن يُزعجه ذلك، فالأجدر أن يُراجع علاقته بالمؤسسات… لا علاقته بالسلطة