حكاية السيد مسعود وصديقه محمد بقلم: يوسف النويتي، منسق ميداني بمؤسسة الأطلس الكبير، منحة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لفائدة الأقليات الدينية (ريما) – مراكش، نونبر 2021 |
على طول الطريق الممتد بين ضفاف وادي الأخضر ودروب قرية أولاد عامر، ينطلق السي العربي سوكاب يوميا في رحلة على ظهر حماره، يتنقل ممسكًا عصا من قصب الخيزران يقيس بها مستوى نمو محصوله. مصدر الصورة: يوسف النويتي، مؤسسة الأطلس الكبير |
لم أكن لأخمن أبدا أن اللقاء الذي بدأ صدفة بعد حوار بسيط في السوق – والذي مهد الطريق لاحقا لقصة صداقة صادقة تكاد لا تجد لها مثيلا – يمكن أن يعلمني دروسًا كبيرة في الحياة كتلك التي اسقيناها من سماع روايات الأجداد. السي مسعود بن باكادو والسيد محمد سوكاب، رجلان مغربيان أحدهما يهودي والآخر مسلم. نشأت بينهما علاقة قائمة على الاحترام والثقة، تعكس إلى حد ما قصة الواقع الكلاسيكي المعيش في المملكة المغربية. ومن بين أحفاد السي محمد، كان جدي، العربي سوكاب (مواليد 1937)، دائمًا ما يغتنم الفرص لمشاركتنا خبرته وحكمه والدروس التي تعلمها في حياته. وفي إحدى الأمسيات، بينما جلسنا نتناول كوب من الشاي بالنعناع، كان من دواعي سروري اكتشاف تفاصيل علاقة خاصة كان قد شهد جميع مراحل تطورها أمام عينيه. عمل جدي سابقا كإمام بالقرية وكان في نفس الوقت مزارعا محبًا لأرضه. كان يسافر منذ نعومة أظافره مع والده، السي محمد، لأعمال التجارة والتبضع كل يوم أحد في أقرب سوق في مدينة دمنات. هناك بدأت قصته، التي جرت أحداثها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهناك نقف أمام مفترق طرق ثقافي بين السكان الأمازيغ والعرب، والمسلمين واليهود، الذين يعيشون في وادي الأخضر، عند سفوح سلسلة جبال الأطلس الكبير. تعد دمنات إحدى المدن المغربية التي تزخر بتاريخ طويل وغني شاهد على حياة اليهود في المنطقة، حيث كان عدد كبير من السكان موجودين هنا قبل أربعة قرون من تشييد حي الملاح في مراكش. وكان معظم أفراد الجالية أمازيغ يتحدثون تشلحيت في المقام الأول. ظل جو التعايش بين اليهود والأمازيغ حاضرًا في تناغم وتآخي لمئات السنين، ولكن حلول خمسينيات القرن الماضي عرف أحداثًا بارزة غادر على إثرها العديد من المغاربة اليهود مقرهم. على فنجان الشاي الثاني، واصل جدي سرد لمحات صغيرة من الحكاية، ولكنها ذات مغزى كبير عن الصداقة التي جمعت والده برجل يهودي مغربي ينحدر من دمنات. مع مرور الوقت، تحولت زيارة الوجه المألوف التي اعتادها لتصبح رحلة منتظمة لزيارة ضيف محبوب لسنوات قادمة. كان سوق الحد حينها موقعًا رئيسيًا للتبادل الاجتماعي والثقافي، ولا يزال ذلك جزءًا مهمًا في تاريخ دمنات الحديث. ولا يزال سوق الأحد هو المكان المناسب لمن يبحث عن تذوق الزيتون والتين واللوز أو تبضع القطع والتحف الخشبية المحلية والفخار. أطلق جدي عنان أفكاره فبدأ يروي تفاصيل هذه الذكرى: “كان السي مسعود يعبر طريق وادي الأخضر ليزور والدي كل ما سنحت له الفرصة. ولا تزال صورته راسخة في ذهني عندما كان يزور المنزل فيجد والدتي وهي تخض الزبدة في عبوة جلد الماعز المعلقة، كانت دائمًا ما تعطيه نصيبًا من الزبدة الطازجة ليأخذها معه إلى دمنات … أصبح السي مسعود أقرب أصدقاء أبي وأقربهم إلى قلبه. وكان والدي محمد يحرص على عدم السماح بمغادرة ضيفه دون تزويده بالكثير من الخضار والفواكه الموسمية. ومع أنني كنت مجرد مراهق في ذلك الوقت، إلا أنني أتذكر بوضوح السي مسعود وهو يقوم بتعبئة كيلوغرامات من الخيار داخل سرج بغله المفضل لأن حصاد العام جاد بالخير الوفير، الحمد لله حمدًا كثيرًا”. في أعماق التقاليد المغربية الحقيقية، ليس هناك فرق بين المحلي و “الآخر” في مفهوم الضيافة والكرم. فهذا الرجل اليهودي من دمنات عند زيارته لقرية ريفية مسلمة لم يلق ترحيبًا حارًا فحسب، بل وتمت أيضًا دعوته لتكرار الزيارة في مناسبات عدة بعد ذلك. |
الطريق الفرعية الرابطة بين قرية أولاد عامر ودمنات. ويعد الانحدار البطيء والثابت مؤشراً على زيادة الارتفاع في اتجاه دمنات. مصدر الصورة: يوسف النويتي، مؤسسة الأطلس الكبير لطالما كنت مهووسًا بمعرفة خبايا هذه التبادلات اليومية المباشرة ومدى مساهمتها في خلق حقبة من التسامح الديني جعلت تاريخ المغرب فريدًا وعززت مكانته الرائدة في العالم. بعد صب الكأس الثالثة من الشاي المعطر، تعلمت المزيد من حكايات جدي. “… وحين كان والدي ينطلق في رحلة نهاية الأسبوع لزيارة أصهاره في القرى الجبلية المحيطة، كان يمر بمدينة دمنات، التي تقع في منتصف المسافة الفاصلة بين القرية ومنازل أقاربي. خلال وقفة الاستراحة تلك، كان السي مسعود يرد ضيافة والدي الحارة ويحسن استقباله، فيقدم له مكانًا يقيم فيه الليل حتى تنتعش أضلاعه وترتاح دابته”. يمكن استخلاص مثل هذه الدروس الأساسية حول تعايش وانسجام بين اليهود والمسلمين، عبر ثمينة مستقاة من حكاية بسيطة يرويها جدي، البالغ من العمر 84 عامًا، عن تجارب عاشها فخلدت لديه ذكرى ماض جميل. وعلى طول هذه المسافة الممتدة لـ 15 كيلومترًا، والتي ربما لم تستلزم إلا 15 دقيقة على ظهر الدواب التي كان يمتطيها السي مسعود وسيدي محمد في سفرهما معًا، لا يسعني إلا أن أوقن بأن الرحلة شكلت ركيزة لصداقتهما، علاقة صادقة امتدت لسنوات عدة تاركة دروسًا بسيطة في الإنسانية، دروس يمكن العمل بها مهما تغير الزمان أو المكان. برامج دعم التعايش جارية التطبيق لا ينبغي أن تقوم الاختلافات الدينية كحواجز تحول دون تحقيق الأهداف المشتركة للمجتمع، كما يتضح من خلال نموذج الصداقة الفريدة بين السي مسعود وسيدي محمد. ولابد أن المخزون الثقافي الذي يملكه جدي – الذي يمكن اعتباره كبسولة زمنية حية – غني جدا يجب مشاركته وتسجيله في ذاكرة تخزين مؤقت. وشأنه شأن العديد من باقي الأجداد المغاربة في جميع أنحاء البلاد، فإن ذكرياتهم تلقي الضوء على أسرار نمط العيش في وئام. يوسف النويتي منسق ميداني لبرنامج منحة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لفائدة الأقليات الدينية (ريما) ويسقر حاليًا بمدينة مراكش. تم إنجاز هذا المقال بمساندة الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، (نشاط الاقليات الدينية و العرقية المدعم من طرف الوكالة الامريكية للتنمية الدولية) ومؤسسة الاطلس الكبير هي المسؤول الوحيد عن المحتوى، الذي لا يعكس بالضرورة وجهات نظر الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، أو حكومة الولايات المتحدة الامريكية. |