زينب لعظم
مسؤولية ميدانية
أن تغيب عن الأنظار، أن تركب مركب الصمت، أن تتفوه بكلمات مكتوبة، متقطعة أو متلاحمة ولربما مفهومة أو غير مفهومة، تلك حرقة لا يشعر بها سوى ذائقها… إنه ذاك الشعور الذي يجعلنا ننغلق على أنفسنا من أجل أنفسنا، ليس أنانية وإنما نتيجة ألم شديد قد أصابنا… حتى الآن أريد أن أكتفي فقط بقول الشاعر: “لقد حملت من الأعباء مُضطلعا…ما لم أَلَمَّ بطودٍ شامخ أَلِمَا…”
أذكر أنني أسمع دوياً، ربما كان صفيراً أشبه بصريف قماش يتمزق في ذهني، ولكني لا أستطيع الجزم… كان يستحوذ على انتباهي تناثر تلك الجثث التي تحلقت حولها زمرة من الناس، فيما آخرون ينتشلونهم ويشقون لهم الطريق إلى حياة أبدية… “أفسحوا الطريق من فضلكم، من فضلكم ابتعدوا…” كلمات تؤرقني، تدافع الناس من حولي ليلمحوا ملامح الآخرين عن قرب يرهقني، تضاربهم من أجل أن يلمسوا ثيابهم ظل يوجعني، ولا زلت ألتفت بين الفينة والأخرى… أصابني ارتداد الصدمة إصابة مباشِرة، مفرقاً الجمع الذي أبقاني أسيرة هيجانه…
كانت هذه أقوال صفية، أثناء ورشة التمكين الذاتي للمرأة التي تقوم بها مؤسسة الأطلس الكبير لفائدة التعاونيات النسائية بمنطقة الريف شمال المغرب. ورشة ‘تخيل’ التي يتخللها هاهنا طعم آلام مريرة من ماض بعيد لا زال حاضرا في الذاكرة….
قبل حوالي 19 سنة وبعدما استسلم السكان للنوم وخلدوا للراحة على عادة الأيام الأخرى، استفاقوا على هول الهزات الأرضية التي ضربت إقليم الحسيمة والضواحي.
صفية أم لأربعة أطفال، كانت زوجة طموحة تحب عائلتها الصغيرة، تعشق الخياطة وترغب في تعليم جيد لأطفالها… تأثرت هذه الحياة الهادئة التي تعيشها على نحو سريع بالزلزال الذي هز المنطقة … زلزال خلف فقدان رب الأسرة بعد تعرض المنزل لانهيار كبير.
وفي سياق تلك الأحداث غير المتوقعة والمروعة التي ترويها صفية، خرجت هي أيضا في حالة من الذعر للهروب – نزعة فطرية طبيعية أصابتها- ثم استفاقت بعدها لتبدأ رحلة البحث عن الأطفال والأهل والجيران … بل رحلة البحث عن أي شيء..؛ شيء ما من ذلك الماضي القريب.
” لقد انتشرت الجثث باعثة في الجو رائحة الموت، لابد أن طنينها مروع ولكنني لا أسمعه فقد خطفني من أصوات الحسيمة صمم صاعق، لا أسمع ولا أحس بشيء، أحلق وأحلق فقط، أستغرق دهرا في التحليق أهوي أرضا، وقد أصبحت عيناي أكثر اتساعا من الرعب الذي أطبق للتو على منطقة إمزورن بؤرة الزلزال. لحظة ارتطام الناس بالأرض تجمدت كل الأشياء، الشظايا، الغبار، الهرج والمرج، الروائح، الزمن وحدهُ صوت يشرف على الصمت المستغلق للموت يُنبئُ “سنرجع يوما إلى حينا” تضيف صفية بشيء من الأمل.
وهكذا استمر الحال على حد وصف النساء أثناء الورشة، جرحى يزحفون على الأنقاض وسِربٌ من الأيدي يصارع لإنقاذ الآخرين، وبكاء وصراخ… يتناهى إلى مسامعهم أخيرا صوت سيارة إسعاف، وشيئا فشيئا تستعيد أصوات الشوارع مسارها، تغمرهم وتنهلهم، ينحني أحدهم على الأجساد يعاينها سريعا وإذا به يبتعد، وبعضهم ممن بقي يلمحه يُقَرْفِصُ أمام الجثث يَجُس نبضها ثم يومئ بحسرة إلى المسعفين “هذا قُضِيَ عليه لن نستطيع إنقاذه!” . تقول السيدة فرحة من الحاضرات والشجن يعتريها ” رَغِبتُ حينها أن أستبقيه، أن أُرغِمَه على تبديل رأيه، ولكن ذراعي يتمرد ويتنكر لي”.
لاحقا، بعد عدة ساعات من تلك الفاجعة تمكن سكان المنطقة الشجعان من استخراج بعض الأفراد من تحت الأنقاض بعدما تبين أنهم نجوا بأعجوبة، في حين فقد آخرون عائلاتهم وأطفالهم وكل ما يملكون.
لم يكن هذا الزلزال غصة سكان الحسيمة الوحيدة، وإنما ما عاشه هذا الشعب بعد تلك الفاجعة، أذاقهم الأمرين، إذ لم تكن إعادة بناء الأبنية ولا النفسية بالشيء الهين، إنها آلام ظلت عالقة بأرض الحسيمة وسكانها منذ سنة 2004.
انغلقت بعدها الحسيمة على نفسها من أجل استعادة نفسها ليس طواعية، وإنما رغبة في النهوض من جديد، على الرغم من أن معاناة هذه المدينة كانت متجذرة قبل حدوث ذلك الزلزال المفجع، لكن جذورها الهشة تلك انكشفت بعدما زُلْزِلَت أرضها.
أصبحت الهزات الأرضية شيئا مألوفا لدى السكان، اعتادوا عليها، ولكن لم تكن تلك نهاية هذه الحكاية المؤلمة، وإنما عاد زلزال الحوز ليُحيِيَ الجراح التي ما فتئت تندمل، وذلك بالضبط في الثامن من شتنبر الماضي على إثر ما عاشه سكان المناطق المنكوبة.
هذا الزلزال الذي كان قد حَبَكَ لكل فرد في الحسيمة قصة يرويها، ها هو يُشْعِر من جديد أفرادا آخرين برجفته وهزته، الحكايات تتشابه بين مراكش والحسيمة ولا تكاد تختلف عن بعضها إلا في بعض التفاصيل، تيتم الأطفال وترملت النساء والرجال وتشردت العائلات وجل الناس عاشوا ليلة لن تنسى، وصفها الجميع بأنها ليلة رعب شديد.
قصة ليلى واحدة من عشرات القصص التي رواها السكان بألم كبير من قلب قرية أشبارو بتمصلوحت في إقليم الحوز أثناء ورشة المواكبة النفسية التي تقدمها مؤسسة الأطلس الكبير للساكنة، بينما لم تستطع نساء أخريات استرجاع شريط ما حدث، ودخلوا إما في نوبة بكاء أو صمت عميق.
تقول ليلى” في أقل من دقيقة انهارت الأرض وانقلب الدوار الذي كان منذ وهلة عامرا بالسكون رأسا على عقب، اجتاحنا سيل من الغبار، سمعت صراخ طفلتي تناديني أمي، أمي، صرخة واهنة وإنما واضحة ونقية، تأتي من مكان بعيد، من مكان آخر لربما مستكين، حينها كانت يدي تبحث عن نفسها وسط ركام الحصى، ولم أكترث البتة لإصابتي، أحاول فقط أن أحرك ساقي وأن أرفع عنقي، ثم لا تسعفني عضلة واحدة…”. تأثرت ليلى بتذكر الأحداث ولم تكمل حديثها إلا بتهجئة.
ما زالت الطفلة تصرخ أمي، أمي، … وها هي ستارة من الغبار تنشق فتظهر الأم تتقدم وسط الأنقاض المعلقة، والحركات المتحجرة، والأفواه المفتوحة على الهاوية، ثم تضع يدها على جبين طفلتها المحموم، لتمتص منه كل الخوف، وتبحث لها عن رشفة ماء تسقيها، وهي تخفي ضعف قواها كالمعتادة أمام ابنتها.
لم تنتهي الورشة مع نساء دوار أشبارو إلا بعد محاولة جاهدة من أطر المؤسسة والطبيبة النفسية المرافقة لخلق مجال أوسع للبوح، كانت القاعة حينها تعج بالقصص وكلما سألت تسمع أجوبة تغرقك في بحر وصف الفاجعة، “سمعت صوت الزلزال”، “صوت النجدة”، “صوت الدموع”، “صوت الأطفال”، “سمعت صوت عائلتي وهم يرددون الشهادة” “رأيت بيتا متهدما”، “انقطعت الكهرباء”، “استنشقت الغبار دفعة واحدة”، ” أحسست باللاجئين في جميع بقاع العالم” …. والعديد، العديد من القصص والروايات بصيغ مختلفة وبطعم واحد.
زميلتي ممن تواكب النساء في دواوير أخرى هونت عن الحاضرات ما أصابهن، وهي تستحضر لهن مشهدا مؤلما لنساء من قرى أخرى مهدومة – يكاد يكون الوصول إليها إنجازاً- وهن يحضرن جميعا نفس الورشة، مرتديات اللباس الأبيض حزنا على موت أزواجهن بما جرت به العادة في المغرب.
في اختلاجة أخيرة خرجت الى ساحة جمعية الدوار التي أقيمت بها الورشة، هذا المبنى الذي كما يبدو قد نجت بعض أركانه في الصمود أمام الزلزال، أردت أن استعيد زمام أموري، سكون تام بداخلي، لا شيء سوى صوت القصص الذي يطن في ذهني، يجتاحني شيئا فشيئا، يحيلني في غياهب الأغوار، يتراءى لي بصيصا متناهي الصغر، يقترب، ثم ترتسم هامته ببطء، إنهم أطفال النساء يركضون ويحومون حول خيمة أقيمت لهم من طرف مؤسسة الأطلس الكبير لعلها تحتضنهم مؤقتا ليستأنفوا تحتها دراستهم ويحققوا أحلامهم البريئة التي لم تنطفي مع ما حدث….
تجمعت أرواح وأجساد الناس بأرواح وأجساد عائلاتهم التي تساقطت كالأمطار ليلة الفاجعة، وبرزت الوحدة والتضامن أيضا تحت الخيم، خِيمٌ وكأنها مظلة واحدة، تم اجتياز المحنة بقوة من تحتها، مظلة واحدة كانت تُسْمَع من داخلها قلوبٌ تنبض رغبة في الحياة ، نعم تحت مظلة واحدة أثبت الجميع أن المجتمع يمكنه التحدث بلغة الوحدة، فبعد كل تلك اللحظات الصعبة والمرهقة انطلقت أرواح الأبطال متحدة من كل الأرجاء للمساعدة، كلهم تحت مظلة واحدة وكأنها شمس الأمل في سماء المغرب تتوهج…
زينب العظم هي مسؤولية ميدانية بمؤسسة الأطلس الكبير في الحسيمة، المغرب.