بقلم : طالع سعود الأطلسي
نشرت جريدة “الشروق” الجزائرية مقالا لأحد كتبتها، يتساءل فيه “متى ينتهي غضب الرئيس؟”… ويُوضّح – والصّحيح أنه لا يوضح – أن “مسألة غضب الرئيس مسألة تنطوي على إشكالية إِحراجية، فالرئيس هو أعلى سلطة في البلاد، وهو رئيس السلطة التنفيذية، وهو أحد ضحايا النظام السابق القائم على التزاوج بين الأوليغارشيا السياسية والاقتصادية، فكيف يستصرخ ولمن يستصرخ”.
المقال طويل ومُتعِب لقارئه، ولعلَّه أتعب أصلا، كاتبه، في مُحاولة تبدو معقّدة، لتوضيح الوضعية الملتبسة للرئيس في النظام الجزائري. ومن خلال تلك “الإشكالية” طاف الكاتب حول التباسات النظام، في بنياته وفي علائقه بمجتمعه. الجزء الأكبر من المقال غير مفهوم بسبب إطلاقه لوابل من المفاهيم لا رابط بينها، وبصياغة مرتبكة، ترشح بغموض أفكار صاحبها أو بخوفه من طرح الأسئلة الحقيقية والبسيطة، وهي التي كانت ستؤدي إلى استخراج حقائق واضحة، ولكنها مقلقة ومستفزّة للنظام الجزائري.
الجزء “الأصغر” من المقال، “يصرُخ” بأن الأزمة في الجزائر تستشري في أوصال النِّظام كُلها، من رئيسه إلى مؤسساته إلى بنياته القانونية في تأطير صلاته بالمجتمع، وإلى “الدّولة العميقة” التي تكمن وراء الدولة، التي “يصرخ” الرئيس عبدالمجيد تبون باسمها. وهو الصّراخ الذي أزّم كاتب المقال نفسه، بصرف النظر عن ضعف جودة “الصورة، الإضاءة والصوت” في مقال “الشروق”، فإنه يشي، أو يهْمِس بأن أزمة صراع مكونات النظام حول الاستئثار بقيادته ومكوناته التي ضاقت بها غرف ودهاليز ممارسة الحكم، وتورّمت إلى حد أن طفح غلّها إلى العلن وإلى الإعلام، وإلى حد الاشتباك والعراك، بما جاوز اللسان إلى استعمال النيران، كما راج عن محاولة اغتيال الفريق، رئيس الأركان، السعيد شنقريحة. وهي المحاولة التي “يؤكدها”، ويرجِّح وقوعها، صوم إعلام النظام عن “نفيها أو كشفها”.
“الرئيس المكلف” في الجزائر السيد عبدالمجيد تبون، رجل ثر، لديه فائض من الكلام، بحيث أجرى حديثا مع قناة “الجزيرة” على حلقتين، في ظرف أسبوع وربما الثالثة في طور الإعداد، لينافس على “نسبة المشاهدة”، مع مسلسلات الفكاهة والدراما في التلفزيون، خلال رمضان هذه السنة. في الحلقة الثانية، نهاية الأسبوع الماضي، فضفض مرة أخرى، “بفم” منزوع الفرامل. ولكنه، وبعفوية المرفوع عنهم اللّوم، صرخ حسب تعبير مقال “الشروق”، بأنه “يحاول بناء الجمهورية على أسس جديدة بعدما بنيت خلال العشرية السوداء وبعدها، باعوجاج كاد يأتي على الأخضر واليابس”. واعتبر “أن الشباب اليوم أصبح يسدّ أذنيه على من ينتقد بدله”، ويستعمل شعارات “لا تُبنى الجزائر الجديدة بوجوه قديمة لخلق الشكوك والكراهية، لأن الوجوه القديمة غير الملوثة يمكن أن تبني الجزائر الجديدة”.
واضح أن تبون في موقف دفاع عن الوجوه القديمة التي انتدبته للموقع الذي هو فيه.. دفاع ركيك التعبير، من “رئيس” سوي على عجل. أراد إرجاع المصعد إلى تلك الوجوه، التي “تتجشّم” عناء إدارة الدولة العميقة في الجزائر، ومن بينها الجنرال نزار والجنرال توفيق، وكلاهُما توغّلا في الثمانين سنة من عمرهما، خالد نزار ولد سنة 1937، والجنرال مدين (توفيق) ولد سنة 1939، وكلاهما كان في قيادة الجيش والبلاد سنوات العشرية وما بعدها، التي قال عنها “الرئيس” بأنها السنوات التي بُنيت فيها الجزائر “على اعوجاج”. ولكنه استدرك بأن تلك الوجوه القديمة “غير الملَوّثة”، “يمكن أن تبني الجزائر الجديدة”. إنه يناصر من انتدبه للرئاسة ضد “الوجوه الجديدة” في قيادة الجيش ودواليب “الدولة العميقة”. حتى أن تصريحاته لا يعتد بها، ويؤخذ منها ما يفضحه، دون أن يقصد فضحه. في هذه الحالة، يبدو أن السيد ملسوع بحرارة لهيب الصّراع الصاعد من أنفاق الدولة.
“الوجوه القديمة”، ومن بينها “الرئيس” نفسه، وفي الواقع هو لا قديم ولا جديد، كانت وإلى الآن، موضوع غضب الحراك الشعبي في الجزائر، الحراك الذي لم يبح صوته وهو يلح على أن “يتنحوا كاع” (ليرحلوا كلهم). وقد انعكس مطلب “التّنحية” على العمليات الانتخابية المختلفة، بالعزوف الشعبي عنها ومقاطعتها، بنسب مشاركة بلغت في بعضها أقل من 20 في المئة، أعني به المشاركة فيها فقط، أما الأصوات الصحيحة فيها فهي أقل من ذلك، الاستفتاء على الدستور، انتخاب الرئيس، الانتخابات البرلمانية والمحلية، وقد جرت متفرقة منذ 2019.
ردت الدولة على “التنطع” الشعبي ضدها وضد مؤسساتها، بأن عاقبت شعبها بالانصراف عنه إلى “تسمين” ثروات الجنرالات وأبنائهم، وإلى استبدال نخبة الحكم التي سيقت إلى السجون، بأخرى وُضعت في مواقعِ الانتفاع لتأهيلها قاعدة اجتماعية للدولة. والدولة هي الاسم الحركي لعصابة الحكم البديلة عن تلك العصابة التي حكمت الجزائر، في السنوات الماضية، كما يردّد حكّام الجزائر وإعلامهم اليوم. تلك العصابة التي اعتبر مقال “الشروق” أن تبون كان ضحيتها.
هكذا إذن يعيش الشعب الجزائري في حالة خصاص شاملة، خصاص في الحريات، والأبرز فيها التضييق على حرية الصحافة، خصاص في المواد الغذائية الأساسية، دون الحديث عن غلاء أسعار الموجود منها، إلى درجة أن الطوابير – باتت عادية – للتزود بالقليل من الحليب، الزيت، السكر، البصل، الموز وغيرها.. الخصاص في السكن، في الصحة، في الشغل، والذي ولّد فئة اجتماعية من الشّباب العاطل تُسمّى “الحيطيِّين”. والخصاص في أمان العيش من الإجرام والأمان من محمولات المستقبل للحياة الفردية والعامة في الجزائر.
جولة واحدة، ليوم واحد، في مواقع التواصل الاجتماعي توجع وتبكي على وضع بلد تتصاعد فيه عائدات الطاقة الأحفورية التي تختزنها أرضه، ويتصاعد فيه بؤس وضنك عيش الشعب، والذي يستحق الحياة بكرامة، الحياة بكل الألوان وبكل المبهجات فيها.
ذلك النظام الذي تديره تلك العصابة، تعتمل داخله تدافعات بين مكوناته. الوجوه الجديدة فيه ملّت الوجوه القديمة.. ضاقت بها، تحكّمها طال وانتفاعها من نفوذها زاد وتَضخّم، وتماديها في إنتاج الأزمات، داخليا وخارجيا، يوسع عزلة النّظام عن شعبه وعن محيطه الإقليمي، بحيث تعاظمت التهديدات المتصلة بوجوده. والصفّ الثاني من كبار الضبّاط في الجيش تكاثرت أعداده، وفيه العشرات من الطامحين للانتقال إلى موقع القرار وللصّعود من “قرار” النظام ودياميسه. موضوعيا “الوجوه الجديدة” تجد نفسها في نفس مواقع ومعاناة عموم الشعب الجزائري، من حيث صعوبة ومشاق العيش، ومن حيث الخوف من المآلات التي تدفع العصابة الحاكمة الجزائر إليها؛ تصعيد في النزاع مع المغرب ورفع درجات التوتر فيه، بما يبقي الجيش في حالة استنفار متعبة، وفي حالة ترقّب مقلقة وبلا أفق. سوء تدبير المشاحنات مع فرنسا وصولا إلى ابتلاع الإهانة منها، استفزاز إسبانيا، والعودة إلى استجداء استئناف العلاقات معها، الانحشار في الوضع التونسي من موقع المُتمَعلم، والذي “لا يعرف النحو فقط، بل يعرف الزيادة فيه”، التعاطي مع أوضاع منطقة الساحل والصحراء بخفّة، بتواطؤات وبمنهج تآمري.
هذه الارتباكات والضغوط الخارجية قابلة للتفاعل، مع القلاقل الداخلية.. القلاقل الناجمة عن تلك الخصاصات الاجتماعية والسياسية المعروفة، وتفاعلهما يمكن أن يعززه رافد، ولو ثانوي، من غضب فئوي “للقاعدة” الاجتماعية لضحايا سياسات الانتقام – بأحكام السجن النافذة ومصادرة الممتلكات – ضد رموز وفاعلين في النظام اقتدوا في انتفاعهم، بما رأوا قيادتهم تفعل. كل هذا يحفز على التكتل والتآزر وإلى الاشتراك في الغضب، سواء منه الذي يُدوي أو ذلك الذي يسري في شرايين الإدارة والمؤسّسات والإعلام الاجتماعي، مكتوم الصوت، ولكنه يتسرب إلى غضب المجتمع فيؤجّجه ويوجّهه.
هكذا وضع يستدعي تمكين الغضب العام من قيادة. وتلتقي فيه موضوعيا المصالح في التغيير، حتى وإن تباينت المنطلقات. و”الوجوه الجديدة” هي القادرة على تحمّل تلك القيادة، لأنها قوّة منظمة ولأن تطلعاتها واضحة وسهلة التحقق. عنوانها، “حقها” في التناوب على التموقع في العصابة المكونة للنظام الجزائري، بكل المرجو من ذلك التموقع من عائدات عليها.
هذه ليست مجرد توقعات لمستقبل الجزائر على المدى القريب، هي ممكنات يراها معارضون للنظام ومطّلعون على حقائق الوضع، وقد بدأت حرارة اشتداد الصراع داخل النظام في التصاعد، والإعلان عن نفسها في شكل، ما راج عن محاولة اغتيال رئيس أركان الجيش، وفي شكل، ما تحدّث هو نفسه به في زيارته لقيادة الدرك الوطني، حين حذّر من “المنظمات التخريبية التي تعمل على استغلال الوسائل التكنولوجية المتطورة لغرض التجسّس والتخريب وتستهدف مُحاولة خلق حالات الانسداد والفوضى”. وعلينا أن نفهم من “الانسداد والفوضى” حالة الغليان في المجتمع وضمنه أفراد الجيش، جنودا وضباطا، ولعل كبار ضباطه هم الأقوى غضبا، والأكثر تربّصا بسانحة الانقضاض على مواقع النفوذ والانتفاع داخل عصابة الحكم…
معه الحق كاتب مقال “الشروق”، صراخ السيد تبون وغضبه “إشكاليان”، وهو يعْبُر مرحلة حيرة في وجه من يصرخ ولماذا ولفائدة من.. ولكنهما صراخ وغضب من موقع الحاشية، على هامش صفحة التاريخ.