صلاح الدين المساوي
تقديم.
بسم الله الرحمان الرحيم. والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد بن عبد الله حبيب رب العالمين، إصطفاه وزكاه وأقسم له بثلاثة على ثلاثة تنبيها وتعظيما لجلال قدره وعظيم محبته عنده سبحانه فقال: “ن،والقٓلٓمِ وٓ مٓا يٓسْطُرُونٓ ،مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ“(سورة القلم/1-7)
وهل نعمة القرآن ، والخبال الذي يصفونك به يا محمد(صلى الله عليه وسلم) يجتمعان..! كلاّ ، إنك لرسول الله …وإنك لمبعوث من فوق سبع سماوات إلى خلق الله أجمعين، لتخرجهم من ظلمات الجهل و الوهم إلى نور العلم والفهم، ولتكون أستاذا للبشرية تعلمهم وتزكيهم ،وهنا يكشف ربنا الكريم عن المقصد الأعظم الذي بعث من أجله حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ“(سورةالجمعة /2).
وبهذا الخطاب الرباني السامي تكون كل الشرائع التي جاء بها نبي الإسلام تنجمع روحها حول تربية الإنسان وتزكيته وترقيته في طريق معرفة الله وتعليمه الكتاب والحكمة التي من أجلها خلق الكون والكائنات .وشهر الصيام الذي نحن بصدده كتبه الله على عباده ليطهرهم ويرفعهم مقاما عليا، إنه مقام الإحسان في العبودية لله جلا وعلا “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (سورة البقرة/188).
لقد جاء شهر رمضان برسالة خالدة”رسالة القرآن” يدعو فيها الإنسان لاقتحام العقبة ؛عقبة الجهل وعقبة الأنانية المستعلية واتباع الهوى وعقبة الغنى المطغي وعقبة الكبر المضني وعقبة الرق والعبودية لغير الله .. وإجمالا يدعوه لتحرير رقبته من كل مظاهر الظلم والإستبداد الذي يجثم على صدره، وما الصبر الذي منحه الله لعباده على قطع الصلة بالطعام والشراب وبكل أصناف الشهوات والملذات في نهار رمضان إلا محطة تدريب على معنى الحرية في الحياة والسير إلى لقاء الله على بينة. وفي هذا الصدد يتحفنا السيد محمود محمد شاكر قائلا (1):
“ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، فحقٌّ على الله يومئذ أن ينصر هذه الفئة الصائمة عن حاجات أبدانها وشهوات نفوسها، الطالبة لما عند ربها من كرامته، التي كرَّم بها بني آدم، إذ خلقهم في الدنيا سواء أحرار، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وفعل الخيرات. ويومئذ ينصرهم على عدوهم، ويستخلفهم في الأرض مرة أخرى لينظر كيف يعملون.” وحول هذه المعاني الجليلة نكتب ونذكر و نفصل بإذن الله تعالى.
1/بين يدي رمضان:
لقد خلق الله تعالى هذا الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. خلقه في أحسن تقويم وجعل له السمع و والأبصار والأفئدة ليفهم عن ربه ويعي الغاية من خلقه و مجيئه إلى الحياة الدنيا، فكلفه بوظيفة عمارة الأرض التي أخبرنا بها سبحانه في قوله”هُوٓ أنْشٓأٓكُمْ مِنٓ الأٓرْضِ وٓاسْتٓعْمٓرٓكُمْ فِيهٓا” (سورة هود/61)،قصد تحقيق العبودية الكاملة التي خلق من أجلها “وٓمٓا خٓلٓقْتُ الجِنّٓ وٓ الإِنْسٓ إلا لِيٓعْبُدُون” (الذاريات /56)،فقد طلب منه أن يسخر عمره كله في معرفة الله وطاعته، ولا سبيل لذلك إلا أن يقرأ ببسم الله ويعمل ببسم الله، حتى تصير كل جوانب حياته تتحرك ببسم الله ، إذ “كل أمر لا يبدأ باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر” (2) . فكل حركة لا توكل فيها على الله فهي مقطوعة ومنزوعة البركة، ثم عٓلّٓمه البيان ” خٓلٓقٓ الإِنْسٓانٓ عٓلّٓمٓهُ البٓيٓان“(سورة الرحمان/4) ، علمه كيف يفصح عن مكنونات نفسه ،كيف يتواصل مع غيره،وكيف يعبر عن مشاعره وكيف يصرف مشارعه، بل علمه الأسماء كلها ليعقل الأشياء ويضبطها ويميزها عن بعضها البعض، قال سبحانه ” وٓعٓلّٓمٓ ءٓادٓمٓ الأٓسْمٓاءٓ كُلّٓهٓا” (سورة البقرة/31)، فقبل أن يفرض الله التكاليف الشرعية على خلقه ،هيأ الإنسان أولا وزرع فيه قابلية التعلم والفهم ورزقه عقلا مدبِّرا وقلبا منورا يستطيع أن يدرك بهما حقيقة الوجود، وإذا استعصى عليه شيئ رده إلى الوحي المنزل على النبي الصادق الأمين” وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا “(سورة البقرة/83).
إذن كل إنسان مستعد بالقوة ليكون عبدا لله لا لغيره ،لكن محيطه الأسري والإجتماعي الذي يترعرع فيه قد يفسد عليه فطرته ويصده عن الحق،و”ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه”(3). فمن وجد مناخا مناسبا وتربة صالحة يستطيع أن يزرع فيها شجرة العبودية لله فقد حظي بعناية ربانية عظمى،و وجب عليه أن يفني عمره كله شكرا لله، بمعنى أن يهب نفسه لطاعة الله ،وإذا أخطأ أو غفل عن ربه سرعان ما يستفيق ويرجع إلى مولاه تائبا معتذرا ، قال الله “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ”(سورة الأعراف/201.)
ولما كان الإنسان معدن الخطأ جعل الله له نفحات إيمانية بمثابة فرص العمر ليعوض بها ماضاع منه وفات “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا.”(4). ففي كل ليلة ينزل ربنا إلى السماء الدنيا وينادي على عباده للقاء به والتعرض لنفحاته، وفي كل جمعة ساعة الإجابة ،من لقيها ودعا فيها ربه أعطي كل ما يريد….! ولقد جاء في سير الرجال أن أحد الصالحين كان يقول( ما دعوت الله بدعوة بين العصر والمغرب يوم الجمعة، إلا استجاب لي ربي حتى استحييت)، أكيد هذا الرجل كان يدعو وهو موقن بالاجابة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر كما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: فِيه سَاعَةٌ لا يُوَافِقها عَبْدٌ مُسلِمٌ، وَهُو قَائِمٌ يُصَلِّي يسأَلُ اللَّه شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاه وَأَشَارَ بِيدِهِ يُقَلِّلُهَا “(5).
وأيضا مناسبة رمضان (أم النفحات)،يعد موسم الخيرات والفيوضات الإلهية، وفيه ليلة خير من ألف شهر ،من أحياها إيمانا واحتسابا فقد فاز ورب الكعبة !!! لا إله إلا الله محمد رسول الله. أي كرم هذا وأي إحسان منه سبحانه!!
رمضان شهر الصيام والترقي في مدارج الإيمان والتقى .
فها أنت ترى أيها العبد المومن كرم ربنا وفضله على عباده ، فهلا شمرت وأقبلت وسابقت وسارعت لتفوز بدرجة القرب منه سبحانه فإنها أعلى منزلة يدركها العبد عند ربه “وٓالسّٓابِقُونٓ السّٓابِقُونٓ أولٓئِكٓ المُقٓرّٓبُونٓ فِي جٓنّاتِ النّٓعِيم” (سورة الواقعة/11)، “فٓأٓمّٓا إِنْ كٓانٓ مِنٓ المُقٓرّٓبِينٓ فٓرٓوْحٌ وٓرٓيْحٓانٌ وٓجٓنّةُ نٓعِيمٍ“(سورة الواقعة/88 ).
فاللهم اجعلنا من أهل السبق إليك والقرب منك .
والسؤال الذي يستحق وقفة مع الذات- نحن معشر الصائمين- هو: ماذا يريد منا رمضان؟.
يتبع…
_______________________________________________
(1): محمود محمد شاكر ،كتاب جمهرة مقالات، ص937.
(2):وقد روي الحديث بألفاظ أخرى نحو هذا .
رواه الإمام أحمد في ” المسند ” (14/329) طبعة مؤسسة الرسالة ، وآخرون كثيرون من أصحاب السنن والمسانيد.
(3):حديث متفق عليه.
(4):أخرجه الامام الطبراني في المعجم الكبير.
(5):حديث متفق عليه