هند ناصري – أروى بريس
على وقعها نمت المجتمعات، و بأنغامها تميزت الثقافات ، هي صوت الملايين في بعض الأماكن، محركتهم ومولّدة ثوراتهم، وهي جزء من البروباغندا التي استولت على عقولهم في أماكن أخرى، هي الموسيقى، التي رافقت تطور الإنسان، وأثرت فيه مقابل تلونها بقضاياه، لحناً وكتابة و مهدت لمفاهيم لم تكن موجودة، ونحتت جمالياً أسس بناء حركات مطلبية في العالم، من هنا يغدو الحديث عن تمازج الموسيقى مع السياسة ودورها في المجتمع مثيراً للاهتمام،إن كان بالنظر للحوادث التاريخية التي وسمت الأغاني بطابعها، أو عبر تمدد السياسة إلى النغمات الموسيقية، ولعل أول من فطن إلى علاقة الموسيقى -كمبنى فني معقد- بالسياسة، هو “أفلاطون” إذ يذكر في كتابه “الجمهورية” بأن حدوث تجديد في الأنماط الموسيقية لعصر ما، من شأنه أن يُخلّ بالنظام السياسي العام للدولة، وهو رأي شهير له من جملة ما وصفه في كتابه المذكور آنفاً، كما يعتبر المؤلف الموسيقي الألماني” لودفيغ فان بيتهوفن Ludwig Van Beethoven 1770- 1827)، واحدا من الأمثلة المبكرة على توظيف الموسيقى في بعث رسائل سياسية عندما عزم على تلحين قصيدة مواطنه الشاعر” فريديك شيلر” المعنونة ” الى الفرح” (بالألمانية: An die Freude ) وبالفعل، حين أتم الموسيقار سيمفونيّته التاسعة، سنة (1824)، ضمّن حركتها الأخيرة مقطعاً مهيباً يُنشده “الكورال”، وقد حملت معاني القصيدة معها الأنباء عن حقبة جديدة في أوروبا، اكتسبت ملامحها من شعارات الثورة الفرنسية (حرية، كرامة وعدالة اجتماعية) و استقت أفكارها من وحي أدباء وفلاسفة امثال : “كانط “و”فولتير” و”جان جاك روسو”، حيث دعا هؤلاء إلى إبطال حكم الملكية وإرساء دعائم الجمهورية ، كما نادوا بفصل الدين عن الدولة، وبإنهاء امتيازات الطبقة الأرستقراطية.
وقد أُجريت، في واقع الأمر، عدة دراسات نظرية وتطبيقية تحاول سبر أغوار العلاقة المُفترضة بين السياسة والموسيقى، فعلى سبيل المثال، يعتبر” كيرولو” بأن الإبداع الموسيقي يستجيب –بطبيعة الحال- للأحداث التي يمر بها المجتمع، والمجتمعات التي تمر بأحداث سياسية دراماتيكية تميل إلى إبداع أصناف موسيقية تُضمِّنُ فيها رسائل سياسية منوطة بالسياق أو الواقع المُعاش ، كما بحث” كيرولو” في موضع آخر الحيثيات المتعلقة باختيار وتأليف الأناشيد الوطنية لعدد من البلدان، وربطها بالأنماط الموسيقية السائدة هناك ،وفي السياق نفسه استعرض الكاتب “دوريان لينسكي Dorian Lynskey” في كتابه ” 33 ثورة في الدقيقة Revolutions Per Minute 33) ” مجموعة من الأغاني النضالية التي عرفها التاريخ ، تحدث من خلالها عن تأثير الأغاني على الحياة السياسية، مشيرا الى أغنية “Two Tribes ” التي أصدرتها فرقة ” فرانكي جو تو هوليوودFrankie Goes to Hollywood” سنة (1984)، والتي حولت حسب ” لينسكي Lynskey ” ساحة الحرب الى ساحة رقص في اطار اعلانها مناهضة الحرب النووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، ولا يمكننا الحديث عن الأغاني السياسية دون ذكر أغنية بيلا تشاو” Bella ciao “، الأغنية الأشهر ربما في مناهضة الظلم والفاشية و حتى مع استحالة معرفة كاتبها ، لا تزال “بيلا تشاو” متداولة على ألسنة الثائرين أو حتى الحالمين بالثورة، فمنذ سطوعها الأول في زمن الديكتاتور الايطالي “موسوليني” سنة (1943)، نقلت الأغنية صدحات الايطاليين الى مختلف دول العالم، من ناحية أخرى تحولت بعض الأغاني، وبالرغم من عدم سعي أصحابها لذلك، رمزا للثورة ، ولعل من أهمها أغنية “Establishment Blues” للمغني الأميركي – المكسيكي ” سيكستو رودريغيز Sixto Rodriguez سنة (1972) ” ، فرغم عدم نجاحها في أميركا في سبعينيات القرن الماضي، الا أنها ألهمت مناهضي الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولا بد أن نشير إلى أن العديد من أغاني هذه الحقبة حملت رسائل تدعو إلى السلام وتقبل الآخر استجابة لما يعيشه السود من تمييز، فمجموعة “ستابل سينغرز The Staples Singers(1948- 1994) ” تميزت بموسيقاها ذات الطابع النضالي، و قد شكلت أغنيتهم “قدر نفسك Respect Yourself سنة (1972) “نقطة تحول في رحلة المطالبة بالحقوق المدنية في أمريكا ، ومن هنا يمكن القول أنه كلما اقترب الفن من الشعب، كلما زادت مكامن تأثيره السياسي، لذلك، رسّخ الراديو والأسطوانات ، حضور الموسيقى بين عموم الناس على اختلاف طبقاتهم، فاتحاً بهذا أبواب الحشد والتعبئة لتغيير الواقع السياسي وإثارة القضايا الاجتماعية ذات البعد الكوني، وهذا يذكرنا ب “بوب مارلي Bob Marley ” (1945 – 1981) ، أسطورة الريغي الجامايكي ، الذي كانت أغنياته أشبه ببيانات سياسية جمعت، من جهة، بين الدعوة “الراستافارية” ( نسبة للديانة الراستافارية) إلى التحرر من قبضة السلطوية الهرمية الاجتماعية، ومن جهة ثانية، دعت الى تحرير أفريقيا، وشعوب العالم أجمع من أشكال الكولونيالية والاستعمار، ونماذج الرأسمالية والاستعباد والاستغلال.
.
بوب مارلي Bob Marley ) 1945- 1981)
وفي مكان آخر، أوجد التضييق على الحريات والعوائق المخابراتية استعمالاً متمايزاً للموسيقى، فقد شكل فنانون مصريون أمثال:” الشاعر أحمد فؤاد نجم، 1929-2013)، والمُلحّن المُغنّي الشيخ إمام ( 1918- 1995) ، تجربة مصرية في إنتاج الأغنية السياسية، إذ نجح الثنائي ، ليس فقط في الضغط على جرح “النكسة” إثر هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في( يونيو 1967)، وإنما أيضاً في توجيه الساخر واللاذع من النقد، بصوت الشعب لا النخب، وبصريح العبارة ومجازها، وتعرّية فساد الأنظمة وفضح تبعيتها، كما في قصيدة “الفول واللحمة”، و”بقرة حاحا”، التي تناولت استباحة البلاد والعباد من قبل الأسياد، وعادت لتُسمع بين صفوف الشباب الثائر خلال ثورة يناير سنة (2011).
وفي لبنان، كان المسرح السياسي أكثر انفتاحاً، وأشد حراكاً وديناميكية ، إذ ارتبط العمل التنظيمي اليساري زمن السبعينيات نتيجة الاحتقان الذي تولد نتيجة احتضان التنظيمات الفلسطينية، ثم تبعات الحرب الأهلية وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي سنة (1982)، بظهور نمط “الفنان المُلتزم”، الذي جسده كل من “مارسيل خليفة” و”أحمد قعبور”، حيث نشط كل منهما ميدانياً على نمط المغني الجوّال (تروبادورTrobador)، يعزفان على العود ويلحنان قصائد أغلبها لشعراء فلسطينيين، امثال : “محمود درويش” و”توفيق زياد”، تركزت على تبنّي مشروع المقاومة الجامع والعريض، من دون التعرض للنُخب العربية الحاكمة، فيما انتهج “زياد الرحباني” خطاً ساخراً أشد اقتراباً من المعيش اللبناني اليومي.
وعلى الطراز نفسه ، وفي سبعينيات المشهد الأميركي المُضطرب خارجياً بسبب تداعيات حرب فيتنام وداخلياً على وقع حركة الحقوق المدنية، استأثر “بوب ديلان Bob Dylan”، بوجدان الشباب المُحتقن بفضل موهبته في كتابة الشعر المؤثر، علاوة على فردية متطرفة، جامحة في السلوك كما في الخطاب، ونزوع نحو التجديد والابتعاد بالفلكلور عما هو نمطي تقليدي، والعزوف عما هو سائد جماهيريا ، ففي أغنيته “أطرق باب الجنة”، Knockin’ On Heaven’s Door، ، ينطق “ديلان” بلسان آمر شرطة لم يعد يحتمل الوقوف على الجانب الخاطئ من التاريخ، في إشارة إلى همجية قوى الأمن في قمعها للمظاهرات التي اندلعت في أميركا، سواء ضد الحروب الخارجية، أو نصرة للحقوق المدنية، إذ يصيح “أماه، انزعي عني رُتبتي، لم أعد أطيق رؤيتها بعد الآن”، وفي موضع آخر يصرخ “أماه، ادفني سلاحي في التراب، فلم أعد أقوى على حمله .. السحاب القاتم قادم .. أشعر بأنّي بت أطرق باب الجنان.، أما الراب ” Rap music” فلم يكن يوماً ومنذ انطلاقته أوائل السبعينات، ، غريباً عن القضايا الاجتماعية والمطلبية، بل كان من صُلبها ووليد رحمها، هو صوت الأقلية العرقية الأميركية السوداء، التي ظلت تعاني عقوداً من العزل والتمييز الممنهج، الذي أدى إلى تهميشها وجعلها حبيسة مناخات العنف والجريمة، فحضور موسيقى الراب كبيان سياسي، راديكالي، يدعو إلى زعزعة السياسة القائمة ترجم في مقاطع وكلمات جريئة ومباشرة لا مجال فيها للتضمين، مثل أغنية : “حارب السلطة Fight the Power (1989) « لمجموعة ” Public Enemy ” و اغنية ” نحن نتبادل قصص الحربWe Trading War Stories (1996)” للرابور الأمريكي” توباك شاكور Tupac Shakur” التي تعبر عن معاناة السود من التمييز العنصري ، وكيفَ أنَّ ال عنف الممارس عليهم أجبرهم على أنْ يكونوا عنيفين بدورهم ، عناوينُ أشبه بالشعارات، تجاوزت أسوار العزل التي أحاطت بأحياء السود الفقيرة، وأخذت تستقطب جميع المؤمنين بالمساواة.
هند ناصري