أروى بريس
هيثم الزبيدي: كاتب من العراق مقيم في لندن
يقال إن الحقيقة أول ضحايا الحرب. قول من الكليشيهات. الحقيقة دائما ضحية. في السلم، وقبل الحرب وأثناءها وبعدها. الحقيقة وجهة نظر تعتمد على زاوية النظر للأشياء. اسألوا مواطني دول مختلفة عن حادثة مشتركة وسيردون بنسخهم المختلفة من الحقيقة. اسألوا مستطرقين أمام مشهد في مدينة وسيردون بأوصاف مختلفة لما حدث.
الغرب يحتكر الحقيقة من وجهة نظره لأسباب تتعلق بما يراه جزءا من أخلاقياته. لكن الأساس هو سيطرته على نسخة الحقيقة التي تتداولها وسائل الإعلام.
سياسي محنك مثل رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل لا يلف أو يدور. يسمي الأشياء بأسمائها. في الحرب العالمية الثانية لخص علاقة بريطانيا مع الحقيقة “الحقيقة نفيسة إلى درجة تلزمنا بحراستها بأكوام من الأكاذيب”.
الروس متهمون بالكذب. منذ أن قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يستعيد جزءا من الإمبراطورية السوفييتية السابقة وأن يتصدى للتمدد الخطير للناتو نحو حدوده، صار كذابا. ولأنه روسي، فهذا لا يكلف الكثير في الإعلام الغربي. الروسي في المخيال الغربي سلافي أرثوذوكسي وشيوعي (سابق أو حالي لا يهم). هذه الأوصاف تكفي لاستعادة النظرة الكلاسيكية لشرق أوروبا، حيث يعيش دراكولا وأشباهه من مصاصي الدماء في قلاع مظلمة. أمر الكذب هنا محسوم وليبق كذلك. لن يقصر بوتين ولا آلته الإعلامية المتشعبة المليئة بالفعل بما لا ينتهي من الأكاذيب.
الغرب يسترضي نفسه. لا يذهب إلى المدى الذي ذهب إليه تشرشل في الإشادة بالكذب. هناك اختراع أفضل اسمه نصف الحقيقة. هذا هو السائد الآن في الإعلام الغربي. صفحة أكاذيب حرب العراق مسحت ونظيفة، والآن علينا أن نملأها بأنصاف الحقائق. الكذب عيب. حرب أوكرانيا في أوروبا، وقد بدأت في شرق القارة حيث تشتعل الحروب العالمية دائما. هذا خطر وجودي للغرب.
أنصاف الحقائق تغذي مزاجا غاضبا من الخطيئة الروسية. لكن مثل هذا المزاج خطر وقد ينقلب على صاحبه لأنه سيعجز عن تفسير الأشياء قريبا. هذه ليست حربا بعيدة في الشرق الأوسط أو أفغانستان، تكنس تفاصيلها تحت السجادة. هذه حرب مصيرية تقرر نظاما عالميا جديدا.
في اليوم الرابع من الحرب، وبعد أن امتص الغرب صدمة “مفاجأة” الغزو، صار يقول إن الحملة الروسية فشلت. نصف الحقيقة هذا، أي أن الحملة لم تنجح بسرعة، يغالط الجغرافيا. هذا بلد بمساحة تزيد عن مساحة ألمانيا أو فرنسا، كيف يمكن لأية قوة في العالم أن تغزوه وتبسط سيطرتها خلال ثلاثة أيام؟
نصف حقيقة آخر يتمثل بتقديم أوكرانيا وكأنها قوة هشة عسكريا. هذا بلد يبيع أسلحة متطورة للعالم. أسلحته نسخة من السلاح الروسي. عندما ترى الصاروخ الأوكراني وهو يرمي برج الدبابة الروسية عن بقيتها لأمتار، تعرف أن الجيش الأوكراني جيش
محترف وكبير ومقتدر. بالتأكيد هو قوة لا تناظر الجيش الروسي عددا وعتادا، ولكنه لا يحارب الروس برميهم بزجاجات المولوتوف.
أمثلة كثيرة لأنصاف الحقائق وستتزايد كما ونوعا. ربما حان الوقت لبوريس جونسون كي يسجل اسمه بالتاريخ ويحور مقولة تشرشل “الحقيقة نفيسة إلى درجة تلزمنا بحراستها بأكوام من أنصاف الحقائق”. ستكون صعبة الهضم على كذاب مثل جونسون، ولكن رئيس الوزراء البريطاني ليس من المعروفين بحساسيتهم من مثل هذه الأشياء